لفت نظري وأنا أزور قبر سيدنا بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنه في دمشق، أبيات شعر كتبت باللغة الأمهرية، لغة سيدنا المسيح وهي لغة أهل الحبشة، ورسمت بحرف عربي، قال بلال: أره بره كنكره كراى كري مندّره وأعربها أو عرّبها شاعر الرسول(ص) حسان بن ثابت: إذا المكارم في آفاقنا ذكرت فإنما بك فينا يضرب المثل فهل كان بلال يتحدث الحبشية لغة بلدته في الحبشة السراة والتي جلب منها مع أبيه كأسيرين وكان غلاماً يافعاً، أسمر، طويل القامة، نحيفاً، ولغة أمه حمامة التي كانت على قدر من العلم والمعرفة، ولغة أبيه رباح؟ أم كان يتقن العربية إلى جانب لغته الأم، أم ينطقها أعجمية مكسرة؟! ظلت هذه الأسئلة تراودني وأنا أقرأ الفاتحة على قبره، متذكراً خصائله الحميدة وجهاده وصفاء سيرته وإخلاصه للدعوة، حيث لم يلوث يده بدم إخوان له حين تقاتل الصحابة، ولم تمتد يده إلى مال حيث كثرت الغنائم وفتحت الدنيا· ثم تذكرت أهل مكة، وكعادة أهلها حتى اليوم، وخاصة التجار، أنهم يتقنون لغات كثيرة منها الأفريقية ولغات آسيا ولغات الجمهوريات الإسلامية، فكيف بلغة بلد كبير، وذي شأن وقوة في ذاك الزمان، وبلد قريب، ولهم معه صلات تجارية، وبيع وشراء، مثل الحبشة، أن لا يتقنوا لغته، وأعرف أن سفراء قريش إلى النجاشي كانوا يتحدثون الحبشية كعمرو بن العاص، وهجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة ضمت صحابة أتقنوا الحبشية بعد أن مكثوا فيها عاماً ويزيد كجعفر بن أبي طالب وغيره، ثم قادني إلى سؤال أكبر، هو خطأ الاعتقاد أن العصر الجاهلي، خاصة حين نتحدث عن مدن كمكة ويثرب اللتين تعدان من حواضر العرب، ومدنه التجارية، لا أرض بداوة وأعراف الصحراء، كما يتوهم الكثير، أن توسما بطابع الجهل، وهما في أوج إزدهارهما الاقتصادي والثقافي· لذا لا بد من مراجعة وتمحيص مصطلح العصر الجاهلي وتجديد مفهومه أو تحديد مفهومه، فالجاهلية في القرآن مفندة في أمور أربعة: التصور للألوهية ''وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية'' في السلوك الاجتماعي''ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى'' في الولاء ''إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية'' في الحكم والتشريع''أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً'' إذا لا جاهلية ضد العلم، خاصة وأن هذا العصر من تاريخ العرب يمتد قرابة قرن ونصف، وصل فيه الشعر أعلى مراتبه، والنثر أو السجع أو الخطب مكانة رفيعة، فللشعر أسواقه واجتماعاته وحكامه ونقاده، كانت تضرب لهم الخيام كالخنساء، وكانت تعلق السموط أو المعلقات أو الطوال على أستار الكعبة، وكان هناك من الشعراء الذين يظلون ينقحون قصائدهم حولاً كاملاً، حتى سميت بالحوليات، كحوليات زهير بن أبي سلمة، وكان هناك خطباء كقس بن ساعدة الأيادي، وكان هناك الحنفاء مثل ورقة بن نوفل ابن عم خديجة بنت خويلد، وزيد بن عمرو بن نفيل عم عمر بن الخطاب، وقس بن ساعدة الأيادي والشاعر أمية بن أبي الصلت، والشاعر لبيد بن ربيعة العامري وعبيدالله بن جحش بن رئاب وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبدالعزى واكثم بن صيفي حكيم العرب، والشاعر زهير بن أبي سلمى· وكانت مكة والمدينة أرض غناء وموسيقى، وأسواق أدبية وفنية، يعيش فيها أقوام من مختلف الأجناس واللغات، وهناك ديانات كاليهودية والنصرانية، وهناك التبادل التجاري، والسلعي، ومرور القوافل، وهناك مكانة مقدسة، وحج كل عام، ورحلات الشتاء والصيف، فلا يمكن إلا أن تكون هناك كتابة، وحسابات وأرقام وعقود وعهود وديون ومواثيق، إذا لم يكن العصر الجاهلي عصر جهل ضد العلم، وإنما كان عصر جهل ضد الحلم!