كان يحتّم عليّ الرجوع الليلي المتأخر المرور بجانبه بشكل شبه يومي، وقبل سنوات كانت المسافة بين وقت المرور الليلي والحريق قرابة خمس عشرة دقيقة، كان ساكناً وهادئاً ويغط في نوم عميق كعادته في ذلك الوقت من هزيع الليل، مثل عامل هدّه الكد اليومي، وتفاصيل الرزق الحلال، لم أكن أتوقع أن يشتعل ذلك السوق بعد تلك الدقائق التي مررت فيها بجانبه، وتشتعل ساحاته بالناس الذين تيقظوا من نومهم مثل تيقظه المفاجئ على نيران الدهشة والفجيعة وضجيج الناس، باشتعال النيران في أثوابه القديمة· اليوم، حين أمر على بقاياه المحوطة بالـ ''شينكو والأخشاب'' وبدايات البناء في سوق جديد ومختلف وعصري، أتذكر الجار القديم، ذاك السوق البسيط الذي استطاع أن يكون له رائحة خاصة بعد سنين طوال، أتذكره فجأة كعزيز علينا، وأننا افتقدناه للأبد، أتذكر كيف كانت النار، وكان الليل، والنار من طبيعتها القديمة زرع الهلع والخشوع في النفوس، والليل من طبيعته أن يكون مسرحاً يضفي بخيالاته وأوهامه ومخاوفه في الرؤوس، ويعطي النار مساحة من الهيبة والحضور، في عُرس النار ذلك، رأيت السوق كعجوز وحيدة تحيط بها النار، وهي تزحف هرباً ولا تستطيع، حينها أحسست كمن تحترق ذاكرة رأسه أو يشتعل عشب قلبه، جلست على دكة أراقب حرب الرماد، متذكراً صورة قديمة تزيد على الثلاثين عاماً، حين رجعنا ذات عصر من المدرسة كأطفال يتسابقون، وفجأة أوقفهم ذلك اللهيب المتصاعد الى السماء، وأفزعهم منظر الرماد المنتشر حتى أطراف النخيل، والبقايا المحترقة للأشياء، يومها كان الحريق الأول الذي أشاهده في حياتي، ظللت أراقبه حتى هدأت أدخنته، وحدها الجارة العجوز عائشة بنت هلال الكويتي كانت تتكوم يغطيها السواد على بقايا دكة تنظر الى بيتها المحترق، وبقرتها المندهشة حتى الحريق من ألسنة اللهب، وخرائب الرماد· كان مشهداً سينمائياً ظل طوال هذه السنين في الرأس، واستيقظ ليلاً في ذاك الحريق الذي أكل خاصرة سوق أبوظبي القديم، وأكل جزءاً من الذاكرة، هذا السوق كبر معنا وفينا، كنا حين يصحبنا الأهل إليه، وكأننا ذاهبون الى نزهة، الأسواق طبيعتها المتعة، وشخوصها الفرجة، هي عالم وإن بني في أطراف المدينة سيعمّرها بعد حين، ويجعل من نفسه هو وسط المدينة، والكل يسعى حوله، والجميع يزحف نحوه، هي الأسواق أقطاب ومحاور ومراكز، لا ترضى بالهامش، ولا تعترف بالمنافي· كبرنا، ولم يكبر سوق أبوظبي، وحين بني بجانبه سوق جديد، أضفى عليه لقباً تمايزياً سيلتصق به فيما بعد، كعادة الأشياء والناس، السوق القديم، وجاره السوق الجديد· سوق أبوظبي الذي فاجأته النيران ليلاً، آتية على خاصرته الجنوبية، أتى عليه العمران، وتجاوزه العصر، وكان لابد من البديل، وحين وصلته الجرافات وأدوات الهد كنت أرقبه من بعيد، كما كنت أرقب النيران الليلية التي حاصرته· لقد أرعبني المشهد·· كيف يمضي الوقت، ونمضي نحن فيه، لا تهزنا إلا الفواجع، ولا يجعلنا نتفكر إلا الحوادث، السوق القديم رغم أنه كان جاري، لكنني لم أزره منذ سنين طويلة، وإن زرته كانت لحاجة تشتهي من ذلك الوطر الجميل، لكن حين شاهدت جاري يحترق في تلك الليلة، مثل بيت جارتنا عائشة بنت هلال، اشتعلت فجأة معها وبهما الذاكرة