يواجهني الشاعر الراحل جان دمو فجأة في كابوس، كنتُ قد تداولت سيرته وشعره وصعلكته وعدمية أفكاره وحياته في سهرة مع أصدقاء من شهود مرحلته، واستعدنا حكايات شاعت عنه وتحدثنا في شعره الذي ينال من العناية دوما أقل مما تأخذه حياته البوهيمية أو العبثية أو الموسومة بالصعلكة. رأيته في الحلم يجلس فوق شريط سكة حديد منحنيا كما يتكور جنين في رحم، موليا ظهره لقطار قادم بسرعة. أنزل من سيارة تقف عند موقف قريب وأتحرك مسرعا لتنبيهه. يقف القطار فجأة ويتحرك جان منزعجا. كان القطار قد قضى على رغبته بالغياب نهائيا. لم يعبأ بمناداتي له باسمه بفزع. كان يتجه صوب الجهة الأخرى ليدخل مبنى سيتضح لي أنه حانة؛ فيداعب النادل ويرجوه أن يسقيه، بينما يتجاهل النداءات من حوله. نتحرك خارجين ويطل هو كشبح في ظلام المكان وقهقهته المتعثرة في فضاء فمه الفارغ من الأسنان تتصاعد حتى تتلاشى. لم يمت في الحلم لكنه قهر قدره وذهب مختاراً قدراً آخر لم يوفره. كانت رمزية الحلم تترجم صورته في وعيي، كما شبهته في مقالة سابقة؛ فهو لا يتكلم –لا ينشر شعره أو يعبأ بمصيره - ويتركنا نرتب تلك الكِسر المتهشمة من حياته. لكن سيرة جان دمو لا تكف عن الحضور في غياب شخصه أيضا بالموت. صارت حياته تعمل كإشارة قوية الدلالة عن جسد غائب. وكأنه بذلك يثأر من تهميشه في حياته، حين كان أشبه بإشارة تعمل بلا محتوى أو دلالة؛ لأنه لم يؤطر نفسه حتى في القصيدة التي لا يجيد سواها معايشة وتفكيرا.. ولم يصدر إلا ديوانا يتيما كانت له أكثر من قابلة عند ولادته. تشوه العنوان من (أسمال الملوك) قبل صدوره إلى (أسمال) فقط. وظلت قصائد كثيرة بلا مصير محدد كلوحات ناقصة. ربما كانت صورته المتخيلة في الكابوس تحل محل وجوده الحقيقي. نتذكر ما عاش رامبو من حياة قصيرة في الشعر وما تركه في حداثة القصيدة. لكن جان دمو كان زاهدا حتى في ذلك وكثيرا ما ضاعت نصوصه وترجماته. تنشر قصائده بوساطة سواه وتظل ناقصة دون نهايات تترجم مزاجه وتواصله المقطوع مع الخارج. كثيرون ادعو صداقته لكنهم ليسوا إلا عابرين في طريق حياته المعتم. قال للصديق الكاتب فخري صالح بمقهى بعمان- وأنا اقدمه له - إنه لا يحس بالزمن ولا المكان، أو بالتحديد قد توقف عن ذلك لان كل شيء يشبه أي شيء بالنسبة له. وكان بتصريحه هذا في اشد لحظات صدقه ووعيه. ثم يمضي في انتحاره الذي يمارسه باستمرار ولا يهبه المنفى إلا تغيرا في موطئ القدم. سأنصت / سأنتظر / سأتصالح / لما يترشّح من نحاس النسيان. ولكنه ليس بنسيان إنه البياض الذي يحيط باستوائيات عقولنا الجافة أتولُّهٌ جديد بأفلاطون؟/ كلا اللوعة/ لوعة اللاوصول/ اللاوصول إلى أين / غريب أن توقظ الأحياء/ بأسمال الرعب/ أسمال الجغرافية/ فلتكن أسمال لملوك.