لأن الحب ضد الحرب، ولأن الإنسانية مرت بحروب وكوارث وزلازل وأوبئة ومجاعات، كانت تخترع مناسبات وأعياداً، وأياماً يسجلون فيها ضحكهم وفرحهم ونصرهم، فحينما كان الإنسان يعتمد في حياته على الزراعة اعتماداً كلياً، كانت هناك أشياء تهدده كالجراد والطير قارم الثمر، الجفاف وقلة المطر، والأمراض التي تفتك بالضرع والزرع، ولما كانت المصيبة من شأنها أن تجمع الناس وتوحد من جهودهم، ظلوا يسبقون هذه المصائب بفرح وعرس جماعي، أو يتلون الكرب والفاجعة بأيام تحفل بالغناء والرقص ونظم الشعر، ومظاهر مسرحية مستوحاة من حياتهم كألعاب الفروسية وخفة اليد، ومراجيح للأطفال، فكانت ملاحم الشعوب، وخرافاتهم الشعبية، وأساطيرهم التي يتباهون بها على الأمم· لذا كثرت الأعياد عندهم، طرداً للشؤم، واستقبالاً للفأل، فكانت الأعياد: عيد الحصاد، عيد قطف العنب، عيد الورود والزهور، عيد زواج القرية الجماعي، عيد شم النسيم، عيد الحب، عيد الكذب، حتى إن بعض الشعوب القديمة ظهرت في أساطيرهم، وقصصهم آلهة متخيلة، للفرح والخير والحق والجمال والخصب والنماء، وأخرى للحزن والشر والكوارث والحرب، فتمثلوها، ومثلوها بالحجر والمرمر والرخام· ولما ظهرت الديانات في حياة الناس، كثرت الأعياد الدينية المرتبطة بأحداث معينة في مسيرة الدعوة للدين، أو تمجيدا لبعض الانتصارات والمواقع المهمة في تاريخهم، أو أعياد القديسين والصالحين، ومع المسيرة الحضارية لمختلف الشعوب ظهرت بين الفينة والأخرى مناسبات، وأعياد بعضها استمر، وبعضها الآخر عفا عليه الزمن، ونسيته الأجيال الجديدة، وربما استعاضت عنها بأعياد عصرية وحديثة، لكن تظل هناك أعياد كبيرة وأساسية، وأعياد صغيرة، ربما لا تسمع بها القرية المجاورة· لماذا العيد مرتبط بالفرح عند الإنسان؟ هل لأنه يأتي في موعده كل عام، ولا يخلف تاريخه؟ لذلك من هنا أتي هذا الجلال المصاحب للعيد، والفرح به، أم هو موعد لأمنيات يحب الإنسان أن تتحقق بقدوم هذا الآتي بزخرف القدسية، وهالات الأماني، أم هي انعكاسات لأفراح طفولية يسحبها الإنسان مع العمر الذي يعدو مثل اندفاعات عربات النار، فلا يعد يتذكر عيد السنة الفائتة، بقدر ما يتذكر أعياد طفولته، والحنين إليها، وكأنها كانت بالأمس فقط، لا تبرح ذاكرته، ولا تفارق شوق القلب، أم أن الإنسان يخزّن بتحايله، وبخبث العمر، مجموعة أفراح صغيرة ومبعثرة، ليوم يرى الناس فيه، وقد هذّبوا من عدوانيتهم، وأجلوا خلافاتهم، وتناسوا أتراحهم، وقلموا من شراستهم، وأعلنوا قدوم الفرح ولو ليوم أو يومين أو ثلاثة، فالعيد من العودة، والكل حين يهنئك بالعيد، يتمنى أن يعيده الله عليك كل سنة وكل حول· اختراع عيد للحب، هو عيد لكل الناس لكي يمضوا مسيرة حياتهم بعيداً عن البغضاء والشحناء، وقتل النفس بغير الحق، وسلب الحقوق، أو تمجيد العقوق، قرع طبول الحروب، وتفشي ثالوث الجهل والمرض والفقر، حصار الشعوب، وغلق العقول، ومنع التفكير، مقابل التكفير، إزاحة الآخر وإلغائه، واعتبار ''الأنا'' محور الكون· عيد للحب، لو لم يكن موجوداً بمعناه السامي، وليس الاحتفالي، لأوجب على الناس أن يبحثوا عنه، ويخترعوه، ويكرسوه في حياتهم، ويجددوه في أيامهم الخالية من الحب!