تبدو براغ كعاصمة غربية شديدة الاعتداد بتاريخها وأصول حضارتها، وشواهدها التي تشعر وأنت تنقل بصرك بينها أنها أكثر من أن تعد أو تحصى، مدينة شديدة الخصوصية والتنوع، يعود تنوعها لتمايز فن المعمار فيها، والظاهر في كل مبنى تعبره عيناك كسائح، خاصة إذا كنت ممن مر على مدن أوروبا الغربية: ألمانيا وفرنسا والنمسا، وغيرها، فبراغ تحديداً تجمع مدارس المعمار وفنونه كلها الحديث والباروكي ومعمار عصر النهضة والقوطي، وكل ما تركه ملوكها البوهيميون من فنون وثقافات وكنائس وجامعات وجسور وقصور وأبراج لا تخطئها العين لكثرتها، فإضافة إلى كل ألقابها كالمدينة الذهبية وقلب أوروبا، فإن براغ تفخر بلقبها كمدينة المائة برج الراسخة فوق أسطح القصور العتيقة والكنائس ذات التاريخ القديم.
أن تذهب إلى براغ يعني أن تعبر مدينة عمرها آلاف السنين، تنتمي لحضارات عديدة، وتجاور في الجغرافيا مدناً وعواصم من شرق وغرب القارة العجوز، وهي مدينة محظوظة جداً؛ لأن الدمار الذي اجتاح مدن أوروبا سنوات الحرب العالمية الثانية لم ينل منها، فحافظت على تراثها وجمالها، الأمر الذي أهلها لأن تصنف واحدة من مراكز التراث العالمي على لائحة “اليونيسكو”، إضافة إلى كل ذلك فإن براغ مدينة لا تحتمل تحت درجات الحرارة العالية (إذا تجاوزت الحرارة الـ30 مئوية أصبحت شوارع براغ لا تطاق)، وعليك مغادرتها فوراً، خاصة إذا كنت ذا مزاج تعكره الحرارة العالية، والازدحام الشديد، وبراغ وجهة سياحية شهيرة تجعلها مزدحمة باستمرار.
من سوء حظي أنني دخلتها يوم السبت الموافق السادس عشر من شهر يونيو، في تمام الثانية عشرة ظهراً، بينما ترمومتر الحرارة في السيارة يشير إلى أن حرارة الجو تبلغ 34 درجة مئوية، كنت أحلم ببراغ منذ سنوات طويلة، ولطالما تمنيت هذه الزيارة لكن الظروف لم تسمح، وحين سمحت وقف الطقس عائقاً من دون النظر إليها بالحميمية التي في خاطري لمدينة لم أرها، لكنني حملت لها حباً غامضاً لا أعرف له مبرراً، ربما لكثرة ما قرأت عنها من خلال عيون الشاعر العربي الكبير الجواهري الذي خرج من بغداد ميمماً صوب أوروبا، في رحلة نفي استمرت 30 عاماً قضاها في براغ، وقال عنها الكثير الكثير.
في كل أسفاري الكثيرة إلى أوروبا، فإن حرارة الطقس المفاجئة تجعلني طريحة الفراش أياماً، حدث ذلك لي في باريس وفي بروكسل وفي ميونخ، أما في لندن فأصابني موسم الربيع بحساسية القش كما يسمونها، أما براغ فقد أصرت على ألا تخرج عن الخط، فمنحتني يوماً متوتراً بسبب تلك الحرارة العالية، والشمس التي فضلت بسببها أن أجلس في ظل مقهى كان نادله فظاً وسيئ الخلق على أن أمشي قاطعة شطري المدينة عبر أشهر جسورها: جسر تشارلز الذي لا تحلو زيارة براغ إلا إذا مشيته متأملاً نهر الفولتافا الذي يشطر براغ إلى قسمين، مع ذلك فقد اخترت حلاً وسطاً، حيث قطعت الجسر المحاذي له بالسيارة!
حين جلست على مقهى آخر، كانت نادلاته معظمهن من الصبايا الفاتنات، لفتني أمران: أن براغ مدينة مصابة بغلاء فاحش يوتر الأعصاب، وأنها تتبع عادة رش الماء على أرضية المقاهي، كما نشاهد في المقاهي القديمة الطراز في القاهرة القديمة، كما يظهر في المسلسلات المصرية! سألت النادلة لماذا ترش الماء على أرضية المقهى، فقالت الجو حار جداً، وهذا يؤدي لتبريد المكان قليلاً، لكن مالذي يبرد حرارة الأسعار؟ لا شيء يمكنه أن يبردها في مدينة سياحية تشهد هذا التدفق الإنساني المخيف بالشكل الذي شاهدته على جسر تشارلز، ما جعلني أهرب باحثة عن أقرب مظلة.


ayya-222@hotmail.com