في السرد يمكن للمخيال أن يقترح أفعالا وأحداثا تنتمي للعجائبي والغريب المدهش، ولكن خارج إطار الفانتازيا المبالغ فيها بشكل كاريكاتيري هزيل. هذا ما توحي به قراءة مجموعة القصص القصيرة للقاص فؤاد ميرزا “يوم طارت الاسماك” التي يمنحنا عنوانها مصارحة بالكمية التي يسقطها الخيال على السرد. وعليك كما يحصل في ألف ليلة وليلة من قبل والواقعيات السحرية من بعد أن تتمثل سياقيا ما يحصل من غرائب، كأن تشهد يوما تطير فيه الأسماك، ويتحول الولد النحيف غيمة على شكل سمكة في إحدى القصص التي أخذها القاص عنوانا للمجموعة، كتأكيد على هوية السرد فيها. وأن يغدو الطفل صديقا للنهر في قصة أخرى، والغيمة تتحول راعيا بمزمار في قصة ثالثة، وفي رابعة نتعرف على زيدان المخلوق بقلبين: واحد في كل جهة من صدره، وهكذا.. كتب فؤاد ميرزا مبكرا القصة القصيرة جدا (الأقصوصة) واختار نماذج مما كتبه فيها منذ سبعينيات القرن الماضي.. وبسبب كثافتها واختزالها الحدثي واعتمادها على الخلاصة او الذروة في الخاتمة، تؤازر الأقصوصة خياله الذي بنى به قصصه الأطول، وغدا بعضها وكأنه مكتوب للأطفال، ليس لأن المجموعة مهداة للابن، بل لأبعد من ذلك؛ فالمطابقة بين عفوية السرد والمغزى الدلالي الأعمق تتأكد بهذا الأسلوب من اصطناع لغة بسيطة تكتنز مجازات تؤهلها لتكون ذات مستويين: حكائي بالمعنى الاصطلاحي للحكاية بما فيها من مفاجآت وتحولات عجائبية، وسردي يأخذ فيه الخطاب تلونات وتنويعات تناسب الدلالة المراد توصيلها، حتى وإن بدت النصوص في بعض نماذجها كقصص أطفال لا أشك في عمق الرسالة التي تحتويها وإشاراتها الذكية إلى عالم يعترض القاص على فقدان العدل فيه، مما وسم المجموعة بالواقعية ولكن غير الفوتغرافية أو المباشرة، فأمكن وصفها بالواقعية السحرية كما اقترح بولس آدم في كلمته على الغلاف الخارجي للكتاب. تغدو الأقاصيص والقصص هنا موازية للامعقولية ما يدور حولنا من أحداث، لذا وجدت القاص موفقا في اختيار نماذج مما كتبه في السبعينيات على الأغلب ومابعدها في حالات قليلة؛ فهي دائمة الدلالة؛ لذا لم أجد تمييزا لافتا بين قصص القسم الأول والثاني ربما في تغير إيقاع السرد فحسب، واتسام قصص القسم الثاني بالتأني في البناء الحدثي. لكن الخارج القاسي مهزوم دوما في لعبة المتخيل هنا. الشخوص يهيئون مصائرهم بما تتطلبه نداءات أعماقهم، السارد المقتول بالرصاص في قصة “الكابوس” يسرد حكاية مقتله، ويسمع صوت الماء الذي تتوضأ به أمه كل صباح بعد اختراق الرصاصة لجبهته. فكان سماعه لصوت الماء وسرده لقصة موته يحكيان عن انتصار رمزي له على قتلته، هذا ما أصفه بالمزاوجة بين: خيال لا يقوم على منطق عقلي، كتذكر المقتول لما جرى لحظة قتله، وبين إدانة ذلك العنف. تتأرجح مصائر السرد أيضا كمصائر الشخوص؛ فيعثر الرجل في “البئر” ـ آخر قصص المجموعة ـ على عظام بدلا عن الذهب الذي وعدته بها رؤياه. فانعكست طفولة السرد لتغدو بكائية صارخة في وجه العالم.