في اجتماع مجلس الأمن الفائت، كانت الكلمات على ألسن المتحدثين تخرج من الأفواه، مثل فعل السحر ملتهبة، مضطربة، مخضبة بآثام الذين تلاعبت الألفاظ بمصيرهم، وتدحرجت الكلمات على تلال جثثهم، وطفت المعاني المبطنة على بحار دمائهم. فالجميع تباكى باسم المظلومين والمقهورين والمشردين والمسحوقين. وعندما تتقصى الأمر، وتغوص في المفردات المجردة، ينتابك إحساس بأن من استبد بالشعب الفلسطيني منذ سبعين عاماً، هي كائنات فضائية، جاءت من الغيب لتقتل البشر وتستولي على الأرض وتسلب الحقوق، وتضع شعباً بأكمله في قفص الحصار الدائم، كل هذا يتم ولا علاقة لإسرائيل به، بل هي التي تطالب بإنصاف العالم لها. نسمع عن المساعدات بالأرقام الفلكية، ونعتقد أن فقراء العالم سوف يقطنون قصوراً مشيدة، ونكذب خيالنا، ونقول إن هذه الحشود التي تقطن العراء، ليست من البشر الذين يعيشون على الأرض، وكلمات أخرى تحدثت عن مكافحة الإرهاب وملاحقته في كل مكان، ولا ندري من أين تأتي هذه الجحافل، ومن أي حدود تتسلل، وتخترق كل أجهزة الرصد والمراقبة التي تكتشف الذبابة على بعد مئات الكيلو مترات، ومن درّب هؤلاء، ومن منحهم بسخاء الأسلحة الفتّاكة، وسهّل لهم لوجستياً كل ما يجعلهم جمهوريات داخل جمهوريات. عندما تستمع لهذه الكلمات، التي ترقص على المشاعر مثل رقصة الوحش قبل الانقضاض على الفريسة، تشعر أن العالم بخير، وتكذب كل الأخبار المأساوية، وتدحض كل الصور الدموية التي ترى كل صباح ومساء. عندما تستمع لهذه الكلمات، تعتقد أن ماتنقله وكالات الأنباء والشاشات الفضائية، مجرد تمرين على احتمالات ما لا يحدث أبداً. الجميع لعن الإرهاب، وتحدث بثقة أنه سيمضي في محاربته حتى ينتهي من العالم، وتعيش الشعوب في بحبوحة اقتصادية، ويتواصل العالم على الخير والمحبة. في الحقيقة، يقف الإنسان البسيط الذي مثلي حائراً، لأن من كان يتحدث هم رؤساء دول، ولهم باع طويل في السياسة والكياسة، وهم يحكمون بلاداً وشعوباً عريقة، ومن الصعب أن يكذبوا ويبيعون ضمائرهم في سوق نخاسة كلامية، ولكن عندما تلتفت إلى الواقع، تجد الكلام مجرد كلام، لا يدخل إلى العقل ولا يصدقه منطق. ونحن اليوم نعيش في زمن الأضواء فيه كاشفة، ولا يمكن أن تمر الأكاذيب، ولا يمكن أن يخفى شيء على الناس، فالعالم طبق مكشوف وواضح. إذاً نسأل أنفسنا لما يصر البعض على الكذب، وهو يعلم علم اليقين أنه كاذب، وأن الآخرين لن يصدقوا ما يقول ؟ لأن ما يقوله لا يدخل إلى العقل، بل إن العقل السليم يسخر من مثل هذه المسرحيات، ويتقزز ويشمئز، ويقول: اللهم أجرنا من عالم أصبح الكذب غذاؤه وكساؤه، وارحم الشعوب التي أصبحت وقوداً لأكاذيب فطاحل الكذب والتدليس.