أول فجر مكي رأيته منذ ثلاث وثلاثين سنة، كنت نازلاً من شعب عامر باتجاه الحرم المكي، كان ندياً يرجف البدن برده، وكل قراءات التاريخ وشخصياته تراءت ليّ في ذاك الطريق، وخيط من أناشيد إنسانية، وتراتيل ملائكية، وكثير من السعادة حفّتني، وكدت أطير بخفة الغمام السائر بسم الله والحمد، كما تطرأ عليّ صباحات ومساءات بذاتها في المدينة المنورة، حيث ظل قلبي معلقاً بها، وبدفئها الذي لامس الضلوع، وشعرت حينها برائحة البراءة، وعطر الطُهر، ومعنى أن يكون الإنسان خالياً من الأذى. غير أن شيئاً آخر أتذكره، ولا يبارح الذاكرة أيضاً، هو قصة واحد من جبال «الهندوكش»، أفغانياً كان أو باكستانياً، سنياً كان أو شيعياً، متعلماً كان أو جاهلاً، ما عرفته حينها أن الفطرة تسيّره، وأن قلبه كان مفعماً بأشياء كثيرة، أقربها الإيمان، وأكثرها الجهاد والمجاهدة، كان له بسطة في الجسد، ووجه لا يمكن أن يشي إلا بالحرب وسكن الجبال البعيدة، بلحيته المرتخية وشعره الطويل وصوته الأجش، وكأنه منبعث من غبار التاريخ، كان هذا الرجل قد حضر قبل الحج بشهور، وظل يجالد النفس، ويحارب غيّها، لا قولاً، بل فعلاً، بحيث رقى معظم جبال مكة طلباً للآجر، وظل يخدم الحجاج والمعتمرين بالمجان ما استطاع لذلك سبيلاً، بحثاً عن المثوبة، كان يطوف بالكعبة في ذهابه وعودته، ساعياً وملبياً، ومتهجداً بالليل والأسحار، لازم غار حراء أياماً، ويوم الحج إن اكتفينا نحن بالجلوس تحت ظل شجرة في عرفات، كان هو في قمته، تصّليه الشمس، ويكابد المتدافعين صعوداً، كان ينحر هديه بيده، ويذبح لمن أراد من الحجاج أضحياتهم، ويجز رؤوس البعض، كان بوده أن يعتلي نصب الشيطان ليحطمه، لا ليرجمه بجمرات صغار في اليد. غير أن ما يثير العجب أنه مشى من مكة إلى المدينة، وربما كان حافياً، أغبرّت قدماه، ونضح عرقه، ولقي من المصاعب ووعثاء السفر ما وجد، كان يعتبرها في قرارة نفسه هجرة إلى الله ورسوله، وأن ما يلقاه اليوم، لقي أكثر منه الرسول الكريم وصاحبه، وفي المدينة مكث طويلاً، وانتحب كثيراً، متسائلاً عن قبور الصحابة يبكيهم فرداً، فرداً، وشهد على أماكن الغزوات، وتبرك بتربتها، لأنه يعتقد أنها هي التي ثبّتت الإسلام وأظهرته، لم يبق على ذلك الرجل من جبال الهندوكش إلا أن يستشهد في سبيل الله عامها، فقلت له ممازحاً إنه لن تطيب له نفس، إلا بعد أن يظفر بثلاثة من بقايا كفار قريش، ويقصبهم ويرتاح، ساعتها سينام قرير العين، ونكمل..