التراجيديا أو المأساة اليابانية وكأنها تعيد إنتاج نفسها وصور كارثيتها، فمنذ أيام قنبلة هيروشيما ونجازاكي، ومنذ تناثرت أشلاء آلاف الضحايا لتملأ أرض اليابان، وتكتب نهاية المجد العسكري للإمبراطورية العسكرية اليابانية، واليابانيون منكفئون داخل جزرهم بعد أن لعقوا جراحهم، ومسحوا دموعهم وقرروا ألا “كاميكازي” بعد اليوم ولا “ساموراي”، وأن ضحايا القنبلة كانوا قرابين تكفير غالية على حكاية غزو بيرل هاربر، كما كانوا الساموراي الأخير في التاريخ الياباني المعاصر.
بيد أن للجغرافيا والمناخ رأياً آخر، فليست السياسة والحرب هما المحرك الوحيد للتاريخ على ما يبدو، صحيح أن اليابانيين انكفأوا داخل أرخبيلهم الجميل، متسلحين بروح أسلافهم من المحاربين الأوائل، بنوا مجدهم العلمي وأسطورتهم التكنولوجية، وحققوا لأنفسهم سلماً وعلماً من رغد العيش، وعلو المقام ما لم تحققه لهم مغامرات الحروب، إلا أن مارداً يحيطهم من جميع الجهات كان يعد أنفاسهم كل لحظة، وفي لحظة أطبق عليهم براً وبحراً فكانوا كعصف مأكول، وصارت اليابان كأن لم تكن!!
تحاملت اليابان على نفسها، تشبثت بكرامتها القومية، أكلت من لحمها ولم تمد يدها، كانت أمة عظيمة علماً وتقنية، وكانت أمة عظيمة حتى وهي تقابل مأساتها، كان اختبار الله لهم قوياً وعظيماً، لكنهم ثبتوا عند الصدمة الأولى، وضمن أخبار كوارث المفاعلات النووية التي تهدد حياة اليابانيين تناقلت وسائل الإعلام خبراً عن تطوع أكثر من 250 يابانياً من كبار السن تتجاوز أعمارهم الستين عاماً، للدخول إلى المفاعل النووي في فوكوشيما في محاولة لإنهاء أزمة الإشعاعات النووية التي حصلت بسبب الزلزال المدمر الذي ضرب بلادهم.
لقد وصلت هذه الإشعاعات إلى درجة خطرة جداً على صحة الإنسان، مما عطَّل محاولة إصلاح الخلل في المفاعل، وبالرغم من وجود ما يقارب الـ 1000 عامل لعلاج المشكلة، إلا أن هذه المجموعة المكونة من 250 شخصاً من كبار السن المتقاعدين والذين لديهم خبرة في مجال الطاقة والجيش قد تقدموا باختيارهم للتطوع واستبدال العمالة الحالية من الشباب الموجودين لإصلاح الخلل، ما يدفع للتساؤل عن أسباب سلوكهم هذا!!
الإعلام الياباني أطلق على هذه المجموعة تسمية (الكتيبة الانتحارية)، إلا أن المجموعة تشرح تصرفها بطريقة علمية قائلة: إن الأبحاث قد أثبتت بطء تحول وانقسام الخلايا بتقدم السن، ما يعني أن أثر الإشعاعات على كبار السن ممن تجاوزوا الستين مثلهم أبطأ بكثير من أثرها على الشباب الذين هم أغلبية الـ 1000 عامل الذين يشتغلون على إصلاح الخلل في المفاعلات، أما ثاني الأسباب فتقول المجموعة إن جيلهم هو من حث على استخدام الطاقة النووية مما يجعلهم مسؤولين عن هذه الكارثة، وبذلك عليهم تحمل المسؤولية، فالرغد والرفاه الذي عاشوه بسبب تلك الطاقة يحملهم مسؤولية دفع التكلفة، وليس إلقاء تبعاتها على أجيال اليوم!!
النقطة الأهم بالنسبة لهم هي أنهم يعيشون آخر سنواتهم، فإذا أصابهم السرطان بسبب الإشعاعات - وهو أمر متوقع - فإنه سيأخذ بضع سنوات للانتشار في أجسادهم، وهم عاشوا لسن الـ 70 تقريباً وفضَّلوا أن يصيبهم السرطان بدلاً من أن يصيب الجيل الأصغر.
لا تعليق بعد ذلك.. سوى أن الحضارات لا تبنيها إلا الشعوب العظيمة بفكرها وسلوكها وطريقة تحملها للمسؤولية.


ayya-222@hotmail.com