شرفني الله بمعرفته وجمعتنا الحياة في ممرات العمل ومكاتبها وكنت على يقينٍ من الوهلة الأولى بأنه رجلٌ مثقفٌ من النخب الأولى، فهو دمث الخلق ولطيف القول، وصبور إلى منتهى الصبر. جلسنا يوم الخميس في اجتماعٍ تجاوز ساعات العمل الرسمية وبعد أن انفض الجميع وجدني في طريق خروجه فسألني: «تأمرين بشيء قبل ما أروح؟»، فقلت له ملوحةً بيمناي ومودعه: «الأمر لله... ما يأمر عليك عدو ولا ظالم... أستودعك من لا تضيع ودائعه، وشكراً على الالتفاتة اللطيفة أستاذ عبدالباقي»! فكانت آخر مرة أرى فيها عينيه اللتين أغمضهما للمرة الأخيرة بعد أن تسحر واستعد لصيام يوم السبت. تحرر الجسد وعادت الروح لبارئها بعيداً عن تكلف البشر وتظاهرهم. كان رأيه في الناس كرأيه في الطقس لا يمكننا التنبؤ به ولا سيطرة لنا عليه. وعند ما أصررت على عكس رأيه، قال: «خليني أخدمك بشغلة... لو سمحتِ لي، وهذا يا دكتورة من منسياتكم... الناس منهم الضحل الذي يعرفه القاموس بالماءُ الرَّقِيقُ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ لا عُمْقَ لَهُ، ومنهم الشِّرْذِمةُ، وهي القِطْعة من الشيء». وبين هذه الذكرى والمواقف الأخرى طافت في خاطري أبيات للإمام الشافعي: (فَمَا كُلُّ مَنْ تَهْوَاهُ يَهْوَاكَ قلبهُ... وَلا كلُّ مَنْ صَافَيْتَه لَكَ قَدْ صَفَا... إذا لم يكن صفو الوداد طبيعةً... فلا خيرَ في ودٍ يجيءُ تكلُّفا). دخل عبدالباقي حياتي لا ليغادرها، ولكن ليبقى وليسهم في إثرائها، فقد تعلمت منه قواعد اللغة العربية الصحيحة التي تحسنت في كتابتها، فذات مرة لم يترك قلمه الأحمر أثراً على ورقه عرضتها عليه للتصحيح. وللمرحوم خطٌ بالكاد يُقرأ بالعينِ المجردة ولما يَكتِبُ له وقع كحِمَمُ البركان، فللكلمات التي يكتبها مُخرَجَاتٌ إيجابية وتجسيد وتوظيفٌ لطاقتها الكامنة فلا يلاحظ قارئها تلك القوة التي تُعبر عنها والنوايا التي تقف وراءها، إذ لها تصرفٌ مطلق في صوغ تصور قارئها وإبادة قواه أواستبدال أفكاره وتغيير مسار قراره. وفي زيارتي لمقره الأخير أخذ مني حضوره ما أخذ فتركت الدموع جانباً ورفعت يدي للمعز القوي القدير ودعوته «اللهم آنس وحدته وقربه منك فهو أهلٌ بذلك». *** للعارفين أقول، لا نعترض عندما يعطينا الله جميلاً، فهو الوهاب العظيم... هذا ما قلته لأسلافه في عزائي لهم وكتب لي يمّان عبدالباقي: «حبيبتي الدكتورة عائشة... لقد ترك الوالد لنا إرثاً لا يقدر بمال الدنيا، ألا وهو معرفتكم الطيبة. لكِ كل المحبة والتقدير. نلتقي قريباً بإذن الله».. فرفعت يدي للمولى في دعاء به إيمانٌ ويقين... غفر الله لأخي وزميلي ومعلمي عبدالباقي أحمد.. وشكراً لعباراتٍ لا تُقدر بثمن... في عصرٍ لا تلتقي فيه الكلمات بمعانيها. د. عائشة بالخير