للضمير مساحة جغرافية في الوجدان البشري، أوسع من مساحة القارات الخمس، إذا ما قسنا هذه المساحة، بامتداد القرون التي مر بها هذا الضمير من تغير وتحول وتلون، حسبما تشيع له الظروف التاريخية والعقائدية. فبطبيعة الحال إن الضمير مترقب التاريخ، هو ليس ضمير القرون الوسطى، وكذلك فإن الضمير في العهد المسيحي هو غير الضمير في العصرين السابقين، وما بعد المسيحية الأولى، هو ليس كالضمير في زمن التنوير، وبالأخص في القرنين الثامن والتاسع عشر، حيث الضمير هو نتاج ثقافة جمعية، إلى جانب الفروق الفردية، والتجارب الخاصة التي يمر بها الأفراد، عبر مراحل التربية الوالدية، والتعليم المدرسي، كما وللعلاقات الشخصية والصداقات، الأثر الكبير في تشكيل الضمير، فهناك الضمير الحي والضمير الفاسد، وكذلك هناك الصوت الخافت، والصوت المرتفع للضمير، وما الانحرافات والشذوذ الأخلاقي والعنف والكراهية والحزن، مقابل ذلك الحب والتضامن والفضيلة والقيم السوية، إلا نتاج مباشر للضمير، ولكن أين يكمن هذا الضمير وما مصدره، وما شكله إن كان له شكل؟ الضمير عزاه فرويد للأنا، ونيتشه نعته بالوعي، والدين أسماه السمو، ولكن ليس في التسميات ما يحيّر، وإنما هو ذلك السحر العجيب والمريب لهذا الكائن الذي يحق أن نقول عنه إنه الكائن الساحر، المهيمن على الإنسان، مهما كان موقعه أو سنه أو جنسه، فهو أي الضمير، يسكن في العمق، فهو الرقيب، وهو المحفز وهو القابض وهو الفاتح، هو كل الأشياء في كيان واحد اسمه الإنسان. هو صوته الداخلي، وهو كلمته المكتوبة، وهو لوحته التشكيلية، وصورته الفوتوغرافية، هو نداؤه الداخلي حين يصرح، وحين يلمح، بمعنى أن الإنسان لا يصمت أبداً، فهو في نومه وفي صحوه هناك من يقوم بكتابة التعبير نيابة عنه، حتى وهو على فراش المرض، لأن الضمير لا يغيب أبداً إلا بموت الإنسان الذي يذهب ومعه ضميره، بعد أن يسجل كل نبضة من نبضات حياته، وكل خطوة يخطوها، سواء بالإيجاب أو السلب، فالضمير لا يجف حبره، ولا ترفع أقلامه، لأنه مثل البحر باق ما بقيت الخليقة. لكن هذا الضمير قد يفسد ولا يعرف أنه فاسد، أو ربما يكون فاسداً عن قصد، كما هو الحال للأفكار عندما تشط بها الغريزة، وتبدو سامية أمام الضمير الفاسد، وبالتالي يصر هذا الضمير على المزيد من الفساد، على اعتبار أنه الحقيقة السامية بالنسبة للضمير الفاسد، وعلى النقيض حيث إننا نجد الضمير الحي يغفو ليخالف حقيقة السمو.