هناك أناس لا تفارقهم الوساوس، ولا هم يستطيعون أن يتخلصوا منها، تجدهم في حديث مع النفس دائم، يختلقون مسلسلات مكسيكية طويلة، ويبنون قصصاً «تشيخوفية» و«كافكاوية» مختلفة، كان بإمكانهم لو لديهم موهبة الكتابة لاستفادوا منها في العمل الدرامي، تجد واحداً من هؤلاء إذا ما دخل مجلساً، أول ما ينظر ينظر للثريا الكبيرة المعلقة، فينتبذ منها مكاناً قصيّاً، لأن الوسواس يطرق ذهنه بأنها يمكن أن تقع فجأة، لسبب بسيط أن ذلك العامل البنغالي غير الماهر لم يوثق حديدها كما ينبغي في السقف، أو أنها قدمت بفعل الزمن، فلم تتحمل مساميرها ثقلها، لذا يتعمد أن يجلس في طرف المكان، آخر من هؤلاء إذا ما دخل مقهى أكثر ما يخشاه أن يحدث شجار فجأة، فيقوم المتخاصمان بكسر زجاجتين ليتحاربا بهما فتفلت واحدة من يد أقلهم جدارة، وتستقر في صدغه، امرأة من الموسوسات بأثر رجعي، ترجع كل شيء يصيبها للعين، فتعثر كعب حذائها الجديد لا ترجعه لسوء الصناعة الصينية التي تحرص على شراء المقلد منها للعلامات التجارية العالمية، بل ترده لعين أصابتها من إحدى زميلاتها التي تغار منها، وإن كح ولدها فمرده للعين، لا لفيروس يكثر مع بداية الشتاء، وإن أصبحت ابنتها منتفخة من اللدغ واللسع، صبّت جام غضبها على جارتها التي لا تصلي على النبي، وعلى عينها الحارة، واحد يظل يسأل سائق السيارة التي استأجرها في رحلته الأخيرة إلى تركيا عن ظروفه الاجتماعية، وهل هو مرتاح في عمله، وكم عنده أولاد، ويحاول أن يحوطه بأسئلته الملغمة، والتي تخص علاقته بزوجته، وهل تغضبه، وهل ينام ساعات كافية في اليوم، وهل يتغذى في أوقات محددة؟ يقولها بمواربة، وليست تصريحاً بغية التأكد أنه مرتاح اجتماعياً، وليس لديه مشاكل منزلية، وأنه ينام نوماً عميقاً وكافياً، لينعم براحة بال، ولا يظل ممسكاً بيديه مقابض السيارة أو يبقى يدوس على فرامل وهمية في جلسته، إن ساق به ذلك السائق التركي في تلك الطرقات الجبلية أو المنحدرات المتعرجة، أو إذا ما تجاوز شاحنة كبيرة، والذي يظل يوصيه بالانتباه الدائم منها، ومن «سواقيها» الذين يتعاطون حبوباً منشطة أو لا ينامون ساعات طويلة كافية، ولا ينتبهون لغذائهم جيداً، وتظل معداتهم خاوية، إلا من فناجين قهوة مرة، وشاي محلى بسكر كثير، وبعضهم يتعاطون، لأنهم مثل عمال السخرة يقاومون الاستغلال بالهروب من الزمن، ومن المكان، لذا تراهم دائماً في الطرقات السريعة، ففيها يجدون ذواتهم المتعبة، ويظل يشدد عليه نتيجة وسواس مرضي قهري بأن أي انقلاب لشاحنة معناه كارثة حقيقية في الطريق، وعلى الجانبين، وقلما يظهر منها أحياء، عدا سائق الشاحنة نفسه، لأنه في موقع عال وحصين، وأصلاً هو غائب عن الزمن!