ليس أجمل ولا أكثر حضوراً في الذاكرة من الأسفار الأولى، حين نتذكرها نحن الجيل الطيب، ونتذكر أيامها في السبعينيات والثمانينيات، لا نتذكر غير أيام كانت زاهية بالخير والبركة والسماحة، وأتذكر سفرة طويلة نحو الدهشة الأولى، والمغامرة الأولى، استمرت أشهر الصيف الثلاثة، أيامها لم تكن هناك «بطاقات ائتمان» ويُضحك عليك بها، لا شيء غير الصرف النقدي في الجيب واليد، ولا أحد يمكنه أن يسرقك، كان بإمكانك أن تحمل تذكرة، وحقيبة سفر، وتتنقل بين بلدان عديدة تفصل بينها بحور، وتوجد بينها حدود، ولا أحد يسأل عنك، ولا ما تحمل، ولا أين وجهتك، والأهم أنك لا تحتاج لسمة دخول لها «فيزا»!
في مثل تلك السنوات السمان، ذهبت للدراسة في لندن، ومكثت فيها شهرين، واستقررت عند عائلة إنجليزية، وبأجرة أسبوعية، لا تتعدى الواحد والعشرين جنيهاً إسترلينياً، ورغم أن الإسترليني يومها بتسعة دراهم، إلا أن «البوند.. بوند»، تذهب للمطعم التركي، و«تمزر بطنك بـسندويتش شاورما، وخبز تنور، وسلطة، وكولا» بجنيه إسترليني واحد، ما في غيره، ليس مثل الآن، صاحب المطعم اللبناني، الإسترليني عنده يشبه الليرة اللبنانية، وتظل تشكو من أكله شبه البارد، وسائق الأجرة اللندني يظل «يحوط» بك تلك الشوارع، وفي الآخر ينزل ويفتح لك الباب بتهذيب تقليدي اعتاد عليه الإنجليزي، وفرضته عليه مهنته، تقبضه ما يسره، ولا يتعدى الجنيه والنصف، والبقشيش «بنسات» قليلة مما تبقى، الآن تسمع السائق الآسيوي فيها يتأفف قبل أن تركب تلك السيارة التي ذهبت نظافتها، والسائق الأفريقي الكومنولثي يتمنى أن تكون فتحة العداد بحجم فتحة أنفه وفمه حين يتناول لقمته بعد تعب، يتمناها لو كانت بخمسة جنيهات، وليت الزبائن لا يثرثرون معه كثيراً، غابت الأصالة والبساطة والتقليد الإنجليزي الصارم، وحضر الغلاء، وعدم قيمة ما تقدم، مقابل خدمات أساسية، وليست تَرَفيهية، وانتقل الشارع من الأرياف والقرى البعيدة التي جاءت مع المهاجرين، بكل لغته الفجة، وتفاصيله في حياة الناس، والتي ذهب رقيها، وسمو ألفاظها ومعانيها، حتى أن «الجنتلمان الإنجليزي» غاب من الشوارع اللندنية، والفارس النبيل الفرنسي ضاع في الحياة المعدنية والزجاجية، وأصبح لا عشب أخضر تحت حافر جواده.
بعد لندن استقللت قطاراً، ثم أبحرنا باتجاه فرنسا، وبتذكرة طلابية «أون ديك»، ومن ثم قطاراً آخر حتى باريس، ولا أحد يسأل عن جواز سفرك، ولا «فيزتك»، ومثلما ودعت الجنيه الإسترليني العريق، استقبلني الفرنك الفرنسي «الحر»، وبأجرة لا تتعدى الستين فرنكاً استطعت أن أجد مكاناً في نُزل الشباب التونسي، صحيح أن الحمامات عامة، ومشتركة، والاستحمام يحتاج التنقل بين الممرات بالفوط القطنية الرخيصة ذات علامة «صباح الخير»، لكن بعشرين فرنكاً يومها تستطيع أن تجلب دجاجة ظلت تتقلب على «الشَوّاية» ساعات، و«خبزتين باكيت» من الذي يحبه قلبك، وزجاجة «كولا» بحجم عائلي، وبطاطا مقلية بلا قياس، اليوم العشاء أقلّه بخمسين يورو، وتقول: يا ليتني أشبع! 
لقد عانينا بفرح، لكننا كنا سعيدين بأشيائنا البسيطة، لذا تجد الـ «آه» تخرج بحسرة كلما ذهبنا لتلك المدن، وتذكرنا أيامنا، وتذكرنا كيف كانت الأمور، وتذكرنا الحفاوة، لا كراهية، ولا شر مضمر، ولا اتهامات مبطنة، ولا تفكير بالأذى، ولا تلك النظرة الدونية، والتشفي بالتفتيش، ولا حتى تلك الروح العدائية تجاه الآخر، وتجاه ما يحمل في يده، جاءت الجريمة، وظهر مصطلح الإرهاب، و«الإسلاموفوبيا»، وصار الشارع الراقي، ومحطات قطاراته الزاهية أشبه بوكر لعصابات غير مرئية، في ذاك الزمان كان «الجنتلمان والفارس والنبيل» يطرد اللصوص والغوغاء، ويمنع العبث بتفاصيل مدينته، واليوم غدا اللصوص يطاردون المتحضرين والراقين، دافعينهم للخروج من مدنهم.. وغداً نكمل