ستظل الأسفار الأولى مزينة بالبهجة والدهشة والفضول الطاغي، بحيث لا تعرف ماذا تخلّي، وماذا تحمل وسط ابتساماتك الدائمة، وكأن كل الناس أصدقاؤك، تسيّرك المحبة، وجمال ما ترى، وعجب ما تشاهد، وعظيم ما تقارن، في تلك الأسفار الأولى في الأيام الزاهية بالخير والبركة، كانت البلدان مفتوحة للجميع، وكانت مساحة الأمان فيها رحبة، لكن مع المتغيرات السياسية، وانهيار الكتلة الشرقية، وفقدان العالم لتوازن القوى بركوع الدب الروسي، وانسحابه نحو سيبيريا الباردة كعجوز منفي، ومحاولة العبث بخرائط البلدان الجيو سياسية، وتسيد النسر الأصلع على العالم، حضرت الجريمة لتلك المدن بحضور الآخر، الغريب، المحمل بمآسي ماضيه، وتعب يومه، الشائك مستقبله، وتراجع أهل المدن لصالح أهل القرى، ونزحوا من مدنهم، وتركوها نهبة لأهل الأرياف، ولمصطادي فرص العمل، هنا.. تعقدت الأمور، وصعبت المسائل، وصار التدقيق واجباً، والتنغيص مفروضاً، وصار الغريب شيطاناً، والبحث عن كل ما من شأنه أن يمنع الآخرين من التدفق، ولكي تمحو لندن وصفَها بالخليجية والآسيوية، وباريس وصفها بالمغاربية والأفريقية، تقلص الأمان، وزاد الأمن، لكن مما زاد من تعقيدات السفر، أحداث الحادي عشر من سبتمبر الأليمة، جاعلة من السفر مسألة شاقة على كل الأطراف، على المسافرين، والجهات الرسمية، وشركات النقل وشركات التأمين، حتى نَخّت المؤسسات أمام تمرد الأفراد، وعبثهم الإجرامي.
بعد تلك السفرة من لندن بحراً وقطاراً إلى باريس، زحفنا إلى إسبانيا، واستقبلتنا «البيزتا» الجميلة، ودون أي تأشيرة، ياه.. شو كانت الأيام حلوة، ورخيصة في إسبانيا، بحيث لا يمكنك أن تسمع إسبانياً يتوجع حينها، ليس بمثل اليوم، لا يخلو شارع من متظاهرين، ومطالبين بأن يظل الخبز والمسكن و«الفينو» رخيصة كما كانت، وليت وعود «اليورو» جلبت معها كل الخير للإسبان الفرحين كعادتهم، والمخلصين لقيلولتهم.
تركنا صيف ذاك العام إسبانيا إلى تونس، ودونما أي فيزا، وكان يومها جوازنا أسود، بصقر مذهب، جلنا في تونس العاصمة، والقيروان، وسوسة، وجربة، وصفاقس، وكان ديناراً «بو رقيبياً»، وكانت تونس يومها تتململ من طول مكوث الزعيم المؤسس، ومن تعاليمه التلفزيونية المقررة كل مساء، غير مدركة أن الخوف ليس في طلب الخير من بطون شبعت ثم جاعت، لأن الخير فيها باق، لكن الخوف الحقيقي في طلب الخير من بطون جاعت ثم شبعت، لأن الشح فيها باق، كانت تونس يومها كلها تعبق برائحة الياسمين والفل، والشاي بالصنوبر، ولم نكن ندرك أننا سنمر عليها يوماً، وهي تبكي أولادها، وتذرف دمع وجدها، ونحيب شِعرها، وأن الناس تبدلوا بسرعة، ولا أحد يقول لك: يعيشك يا خويا العربي!
من تونس رجونا القاهرة، بلا فيزا أيضاً، وكانت مصر آخر محطات ذلك الصيف الطويل قبل الدراسة الجامعية، ولو قلت لكم: كانت تذكرة الطائرة لها لا تتعدى كم مائة درهم على أصابع اليد الواحدة، وقد أدركنا يومها رمضان، فصمت أوله في تونس، وأسبوعاً منه في القاهرة، وسكنت يومها في مدينة الإعلام، وكانت جديدة وشبه خالية، رأيت مسارح، واشتريت كتباً، واستمتعت بليل القاهرة، وسمح لنا الجنيه المصري أن نكمل أسبوعنا بكل كرم، وبتذكرة مرجعة لأبوظبي.
اليوم أصبح خوفنا ليس من السفر، ولكن مما قد يحصل في السفر، ومفاجآت السفر! حتى غدونا نترحم على أيام أسفارنا الأولى التي كانت زاهية بالخير والمحبة والبركة.