انتهاك القوانين والتشريعات والمعاهدات والقرارات الدولية صريح ومستمر وموثّق طوال تاريخ القضية الفلسطينية، وقد وضعت الأوضاع في غزة ورفح المسمار الأخير في نعش تلك القوانين والقرارات الصورية، ولا يخفى على العالم أجمع المواقف الثابتة التي لا تحيد عنها أميركا وكل من يدور في فلك ما يسمى بالغرب حيال الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وكيف كانت وما تزال المواساة والتعاطف ورفض استهداف المدنيين الرسالة الموجهة باستمرار للشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية.
أما الدعم الدبلوماسي والقانوني والمالي والاقتصادي والتقني والعسكري فكان يذهب للحكومة الإسرائيلية، وهو يتبع مراراً توقيت الإدانة بالاعتداءات على الأراضي الفلسطينية وبناء المستعمرات، ووقوع الأحداث الدامية التي يكون المدنيون من أطفال ونساء وشيوخ هم الضحايا الأكثر فيها، في تناقض غريب ولكن ليس بمستغرب.

ولطالما شن الإعلام الغربي من جانبه الحملات المزدوجة التي تشوه قناعات المتلقّي، والرسائل المبطنة والممنهجة لغسل الأدمغة والتخفيف من وطأة بشاعة جرائم الإبادات الجماعية، وبأنه صراع بين الخير والشر وبين قيم عالمين، وهو حق مشروع ومبرّر للجيش المعتدي والذي يدافع عن قيم الثقافة الغربية، وتزامن مع كل ذلك صراعات وهمية في المنطقة، وإنْ كانت تبدو حقيقية، لتشتيت انتباه العالم عما يدور في فلسطين، وفرض واقع جديد حتى نصل إلى المشهد الأخير ويتم فعلياً ما خطط له في البداية، وهو ما لا تفهمه الجماهير العاطفية التي تعتقد أن القضية الفلسطينية هي اختيار بين اللون الأبيض والأسود وبأنه لا يوجد لون رمادي بين اللونين، وهي المنطقة التي يدور فيها كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية منذ القرن التاسع عشر وليومنا هذا.
ومن جهة أخرى، هناك برجوازية وطبقية في شؤون العلاقات الدولية، وبأن المنفعية لتلك الطبقات تقف خلفها منظومات أخرى تحدد التوجهات الكبرى للبشرية، وكل الشواهد ستقود حتماً الإنسان غير المؤدلج لذلك الاستنتاج، ولذلك يعدّ التأميم الفكري الغربي هو السلاح الذي تهمش به باقي الثقافات، وخاصةً التي لا تعتبر جديرة بحمل مشعل التحضّر أو المشاركة في حمله، وهي نفسها التي تعاني من النصيب الأكبر من القمع في ظل المنظمات الدولية، والتي تأسست بأجندات مبهمة للتمهيد لما يجري اليوم، ولذلك هي غير قادرة على وقف أي اعتداء وانتهاك لحقوق الشعب الفلسطيني الأساسية وغيره من الشعوب المضطهدة، حتى أصبحت كل تلك النكبات تبدو وكأنها تحت رعاية تلك المنظمات الدولية.

ويبدو لي أن سيناريوهات الصراعات الجارية اليوم في العالم قد تم تحديدها مسبقاً، وما يسمى بـ «الصواب السياسي» يقرره الأقوى، وهو بالتالي مجرد آلية للتسويق لفكرة المعاناة العادلة المرتبطة بالأقليات العرقية والدينية ونمط الحياة والموقع الجغرافي الثقافي، وفرض الديمقراطية كأداة لسيادة الثقافة الغربية، والتأثير من خلال تصدير التوجهات والميول والقناعات والسلوكيات والأنماط الفكرية التي تستوردها شعوب العالم باسم التعددية الثقافية، وانتشار ظاهرة ازدراء الذات الوطنية وخاصةً في بعض الثقافات الشرقية الأكثر تأثراً بسياط العولمة.
التوجه الغربي المعاصر من القضية الفلسطينية في غاية التعقيد ولا يوجد فيه صدف وقرارات مفاجئة ولن تكون هناك مفاجآت، فالحكومات الغربية وانتخاب الرؤساء فيها ليس أمراً عرضياً وخاضعاً لاختيارات الشعوب بإرادتها الحرة كما يعتقد معظم الناس، وبأن الانتخابات تأتي بأشخاص من عامة الناس، بل هي تنتخب من يوضع أمامها لتنتخبه.
وما دولة إسرائيل اليوم سوى امتداد طبيعي وأصيل للثقافة الغربية، ولهذا لن تتغير السياسة الأميركية والغربية تجاه القضية الفلسطينية، قصر الزمان أم طال! والضغوط الوحيدة ستأتيهم من الداخل وعولمة غير مخطط لها للوعي الإنساني الرافض للظلم، وتضامن لا يعترف بالفوارق والحواجز المصطنعة بين البشر، وعالمية دولة عميقة ليس لها حدود ولا حكومة، وهي منصات التواصل الاجتماعي، وهي بمثابة حكومات الظل المستقبلية التي لن تتقيد بالأهداف، بل بأنماط حياة تتحول لأفكار، والعكس صحيح، لتحدث التغيير الصامت والذي قد تكون له كلمة الفصل في ما هو قادم من حراك عالمي لمفهوم العدالة والأمن الإنساني في العالم.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات