منذ أسبوعٍ فقط، ظنّ كثيرون أن صفحة الحرب في غزة تُطوى أخيراً، وأنّ الهدنة التي جاءت بعد تسليم الأسرى قد تمهّد لبدايةٍ جديدة، ولو هشة، نحو التهدئة وإعادة الإعمار. غير أن الطيران الإسرائيلي عاد فجأةً إلى القصف، وكأن شيئاً لم يكن، معلناً أن الهدوء في الشرق الأوسط لا يعيش طويلاً في ظلّ منطق القوة والغطرسة.
ما جرى خلال الساعات الأخيرة يثبت أن الهدنة لم تكن سوى استراحة بين جولتين من الصراع، وأنّ إسرائيل لم تغيّر سلوكها الاستعلائي الذي يرى في كل اتفاق مجرّد وسيلة لترتيب الميدان لا أكثر. فبمجرد تسلّم الأسرى، تبدّل الخطاب من «السلام والفرص» إلى «الردّ والانتقام»، وكأن الهدف لم يكن سوى استعادة الرهائن ثم العودة إلى آلة الحرب. تقول إسرائيل إنّها تردّ على خرقٍ للهدنة، فيما يرى العالم صور الأطفال والنساء تحت الركام، وتتصاعد أصوات الاستغاثة من المستشفيات المهدّمة.
وفي المقابل، تحاول «حماس» أن تُظهر صموداً سياسياً، معتبرة أن القصف دليل على فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها خلال أشهرٍ من الحرب، وأنّ أي تسوية لا تمنح الفلسطينيين كرامة العيش والحرية لن تدوم. في العواصم الإقليمية، يتردّد الصدى: مصر تستعدّ لجولة وساطة جديدة، وقطر تحاول إنعاش خطوط الاتصال، والإدارة الأميركية تبدو عاجزة عن ضبط حليفها الإسرائيلي الذي يغامر بإشعال الميدان مجدداً. أما أوروبا، فممزّقة بين خطاب حقوقي باهت ومصالحٍ سياسية تخشى المساس بها.
والواقع أن غزة اليوم ليست مجرد ساحةٍ للحرب، بل مرآةٌ تُظهر عجز النظام الدولي عن فرض الحد الأدنى من العدالة. فكل مرةٍ يُعلن فيها وقفٌ لإطلاق النار، تندلع بعدها حربٌ أوسع، لأنّ الجذر الحقيقي للأزمة - الاحتلال والحصار - لم يُقتلع بعد. ولذلك تبقى كل تهدئة مجرّد هدنةٍ بين الموت مرتين، لا أكثر. ولأنّ التاريخ في هذه البقعة لا يكتب بالحبر بل بالدم، فإنّ صمت العالم لم يعد يعني الحياد، بل التواطؤ. وغزة التي قاومت حتى الرمق الأخير، ما زالت تصرخ باسم الإنسانية التي فقدت معناها وسط حسابات القوة والنفوذ. لقد أثبتت هذه الجولة الجديدة أن منطق الحديد لا يصنع أمناً، وأنّ من يبني استقراره على أنقاض الآخرين سيبقى يعيش في خوفٍ أبدي. وما لم تتغير المعادلة من جذورها، سيبقى الشرق الأوسط يدور في حلقة النار ذاتها، تتبدّل الأسماء والوجوه، لكن المأساة تظلّ واحدة.
*لواء ركن طيار متقاعد


