في مقالة أخيرة بصحيفة «واشنطن بوست»، يذهب عالم الاقتصاد الأميركي الحاصل على جائزة نوبل، «جوزف ستيغلز»، إلى القول بأن الصراع السياسي القائم حالياً في الولايات المتحدة يدور حول الأزمة الاجتماعية العميقة التي وصلت إليها الرأسمالية المعولمة، وفق مقاربتين: المقاربة الشعبوية النيوليبرالية التي يتبناها الرئيس دونالد ترامب، والمقاربة الاشتراكية الديمقراطية التي يدافع عنها في صفوف الحزب الديمقراطي السيناتور بيرني ساندرز والنائبة آلكسندريا كورتيز.
ما يذهب إليه ستيغلز هو أن الخيار المناسب للمجتمعات الليبرالية الغربية ليس ترميم المقاييس النيوليبرالية الفاشلة، ولا الحلول الاشتراكية العقيمة، وإنما إعادة إصلاح المنظومة الرأسمالية من داخلها، باعتماد ما أَطلق عليه «الرأسمالية التقدمية» (التي خصص لها كتاباً مستقلاً).
الحلول النيوليبرالية هي المسؤولة، حسب ستيغلز، عن الأزمة الاجتماعية الراهنة، بما قامت عليه من برامج وآليات تتركز في عناصر ثلاثة هي: تخفيض الضرائب بالنسبة للأغنياء، وتحرير سوق العمل والبضائع، والتوجيه المالي لحركية العولمة. ومن هنا فإن سياسات الحماية والانكفاء من منظور قومي متشدد لن تفيد في مواجهة الواقع الموضوعي للعولمة، والتي هي الأفق التاريخي الجديد للرأسمالية. وبالمنطق نفسه لن تفيد السياسات الاشتراكية التقليدية التي تحن إليها بعض الطبقات الاجتماعية المطحونة، في توجهها نحو اليسار الراديكالي الشعبوي الذي هو الوجه الآخر لليمين المتطرف.
ما تهدف إليه الرأسمالية التقدمية هو تصحيح اختلالات ديناميكية العولمة، من أجل كبح تجاوزات القوى المالية، وتحقيق التوازن المطلوب بين الأسواق والحكومة والمجتمع المدني، وتمديد الانتماء للطبقة الوسطى ليشمل كل المواطنين. أو بعبارة أخرى، إنما تسعى إليه الرأسمالية التقدمية هو إنقاذ المنظومة الرأسمالية ذاتها من تناقضاتها وشروخها الداخلية، لأنه من دون تحقيق التوازن المنشود بين الفاعلية الإنتاجية والعدالة التوزيعية، تغدو الأسواق نفسها عديمة الجدوائية.
وهكذا تركز الرأسمالية التقدمية على أربع أولويات هي: تحقيق التوازن بين الأسواق والدولة والمجتمع المدني، والربط العضوي بين حركية الإنتاج والمجال العمومي المشترك، والحيلولة دون تركز سلطة الأسواق، وتحقيق الفصل الضروري بين السلطة الاقتصادية ودائرة التأثير السياسي.
وتندرج أطروحة عالم الاقتصاد ستيغلز في اتجاه ما يطلق عليه في الأدبيات الفلسفية والاجتماعية الأميركية تسمية «الليبرالية المساواتية»، التي يعتبر الفيلسوف الأميركي «جون رولز» أهم مفكريها. وكما هو واضح من التسمية، فإن الليبرالية المساواتية تجمع بين قيمتي الحرية باعتبارها تكريساً لمبدأ الذاتية الفردية الذي هو الأساس المعياري لعصور الحداثة والمساواة من حيث هي القاعدة المرجعية للعدالة ومقوم الاستقرار الاجتماعي.
والواقع أن ثنائية الحرية والمساواة ليست جديدة في الفكر الليبرالي الذي لا يمكن اختزاله في حرية السوق من حيث كونه يولد بذاته توازناته الاجتماعية دون تدخل من السلطات العمومية. فالمعروف أن مفكر الرأسمالية الأشهر «آدم سميث»، صاحب نظرية «اليد الخفية»، هو الذي ألّف كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية» (صدر عام 1795) وفيه يبين أن محرك الطبيعة الإنسانية ليس المنفعة وإنما التعاطف مع الآخرين، وأن البحث عن المصلحة الشخصية ليس سوى الوسيلة لتحقيق التعاون والتبادل مع الآخر بطريقة عقلانية ناجعة.
لا بد من التنبيه هنا إلى أن مفهوم السوق في أدبيات مفكري الأنوار لا يعني فقط جانب التبادل التجاري والاقتصادي، وإنما قيم التعارف والتعاضد التي هي أساس النظام الاجتماعي (من هذا المنظور تحدث مونتسكيو عن فضائل التجارة).
ومع أن الإصلاحات الكبرى التي شهدتها المنظومة الرأسمالية من الداخل بعد أزمة الثلاثينيات، قد سمحت بإعادة تحديد دور الدولة في الحركية الاقتصادية من حيث هي أداة الضبط والتوازن في العملية الإنتاجية، كما أن الفكر السياسي الليبرالي أعاد الاعتبار لخصوصية «الخيرات غير المادية» خارج عملية تسليع وتشيئة الروابط الاجتماعية التي تحدث عنها ماركس في نقده الجذري للرأسمالية، إلا أن حركية العولمة في اتجاهها المزدوج للقولبة المالية الشاملة للنظام الاقتصادي ولتقليص سيادة الدولة الوطنية، قد فرضت إعادة طرح الخيارات السياسية الملائمة لترجمة مبدأي الحرية والمساواة بعد انهيار الآليات التقليدية التي حفظت التوازنات الاجتماعية في النصف الثاني من القرن العشرين.
من هنا ندرك عودة «شبح ماركس» (حسب عبارة جاك دريدا الشهيرة في كتاب يحمل عنوانه هذه العبارة)، كما نلمسه في الخطاب السياسي للاتجاه اليساري الراديكالي في الحزب الديمقراطي الأميركي الذي كان في السابق حزباً ليبرالياً وسطياً في مقابل اليمين الشعبوي المحافظ الحاكم. الفرق الوحيد بين الاتجاهين هو طبيعة ترجمة الشرخ الاجتماعي الحاد القائم بين القوالب الثقافية القومية والقوالب الاجتماعية الطبقية.
ما يذهب إليه ستيغلز هو أن الخيار المناسب للمجتمعات الليبرالية الغربية ليس ترميم المقاييس النيوليبرالية الفاشلة، ولا الحلول الاشتراكية العقيمة، وإنما إعادة إصلاح المنظومة الرأسمالية من داخلها، باعتماد ما أَطلق عليه «الرأسمالية التقدمية» (التي خصص لها كتاباً مستقلاً).
الحلول النيوليبرالية هي المسؤولة، حسب ستيغلز، عن الأزمة الاجتماعية الراهنة، بما قامت عليه من برامج وآليات تتركز في عناصر ثلاثة هي: تخفيض الضرائب بالنسبة للأغنياء، وتحرير سوق العمل والبضائع، والتوجيه المالي لحركية العولمة. ومن هنا فإن سياسات الحماية والانكفاء من منظور قومي متشدد لن تفيد في مواجهة الواقع الموضوعي للعولمة، والتي هي الأفق التاريخي الجديد للرأسمالية. وبالمنطق نفسه لن تفيد السياسات الاشتراكية التقليدية التي تحن إليها بعض الطبقات الاجتماعية المطحونة، في توجهها نحو اليسار الراديكالي الشعبوي الذي هو الوجه الآخر لليمين المتطرف.
ما تهدف إليه الرأسمالية التقدمية هو تصحيح اختلالات ديناميكية العولمة، من أجل كبح تجاوزات القوى المالية، وتحقيق التوازن المطلوب بين الأسواق والحكومة والمجتمع المدني، وتمديد الانتماء للطبقة الوسطى ليشمل كل المواطنين. أو بعبارة أخرى، إنما تسعى إليه الرأسمالية التقدمية هو إنقاذ المنظومة الرأسمالية ذاتها من تناقضاتها وشروخها الداخلية، لأنه من دون تحقيق التوازن المنشود بين الفاعلية الإنتاجية والعدالة التوزيعية، تغدو الأسواق نفسها عديمة الجدوائية.
وهكذا تركز الرأسمالية التقدمية على أربع أولويات هي: تحقيق التوازن بين الأسواق والدولة والمجتمع المدني، والربط العضوي بين حركية الإنتاج والمجال العمومي المشترك، والحيلولة دون تركز سلطة الأسواق، وتحقيق الفصل الضروري بين السلطة الاقتصادية ودائرة التأثير السياسي.
وتندرج أطروحة عالم الاقتصاد ستيغلز في اتجاه ما يطلق عليه في الأدبيات الفلسفية والاجتماعية الأميركية تسمية «الليبرالية المساواتية»، التي يعتبر الفيلسوف الأميركي «جون رولز» أهم مفكريها. وكما هو واضح من التسمية، فإن الليبرالية المساواتية تجمع بين قيمتي الحرية باعتبارها تكريساً لمبدأ الذاتية الفردية الذي هو الأساس المعياري لعصور الحداثة والمساواة من حيث هي القاعدة المرجعية للعدالة ومقوم الاستقرار الاجتماعي.
والواقع أن ثنائية الحرية والمساواة ليست جديدة في الفكر الليبرالي الذي لا يمكن اختزاله في حرية السوق من حيث كونه يولد بذاته توازناته الاجتماعية دون تدخل من السلطات العمومية. فالمعروف أن مفكر الرأسمالية الأشهر «آدم سميث»، صاحب نظرية «اليد الخفية»، هو الذي ألّف كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية» (صدر عام 1795) وفيه يبين أن محرك الطبيعة الإنسانية ليس المنفعة وإنما التعاطف مع الآخرين، وأن البحث عن المصلحة الشخصية ليس سوى الوسيلة لتحقيق التعاون والتبادل مع الآخر بطريقة عقلانية ناجعة.
لا بد من التنبيه هنا إلى أن مفهوم السوق في أدبيات مفكري الأنوار لا يعني فقط جانب التبادل التجاري والاقتصادي، وإنما قيم التعارف والتعاضد التي هي أساس النظام الاجتماعي (من هذا المنظور تحدث مونتسكيو عن فضائل التجارة).
ومع أن الإصلاحات الكبرى التي شهدتها المنظومة الرأسمالية من الداخل بعد أزمة الثلاثينيات، قد سمحت بإعادة تحديد دور الدولة في الحركية الاقتصادية من حيث هي أداة الضبط والتوازن في العملية الإنتاجية، كما أن الفكر السياسي الليبرالي أعاد الاعتبار لخصوصية «الخيرات غير المادية» خارج عملية تسليع وتشيئة الروابط الاجتماعية التي تحدث عنها ماركس في نقده الجذري للرأسمالية، إلا أن حركية العولمة في اتجاهها المزدوج للقولبة المالية الشاملة للنظام الاقتصادي ولتقليص سيادة الدولة الوطنية، قد فرضت إعادة طرح الخيارات السياسية الملائمة لترجمة مبدأي الحرية والمساواة بعد انهيار الآليات التقليدية التي حفظت التوازنات الاجتماعية في النصف الثاني من القرن العشرين.
من هنا ندرك عودة «شبح ماركس» (حسب عبارة جاك دريدا الشهيرة في كتاب يحمل عنوانه هذه العبارة)، كما نلمسه في الخطاب السياسي للاتجاه اليساري الراديكالي في الحزب الديمقراطي الأميركي الذي كان في السابق حزباً ليبرالياً وسطياً في مقابل اليمين الشعبوي المحافظ الحاكم. الفرق الوحيد بين الاتجاهين هو طبيعة ترجمة الشرخ الاجتماعي الحاد القائم بين القوالب الثقافية القومية والقوالب الاجتماعية الطبقية.