يقول سقراط: «الشيء الذي أعرفه، هو أنني لا أعرف شيئاً». هي هكذا الحياة حبل مشدود بين لا نهايتين، كما يقول الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، ولكن ما بين اللا نهايتين يكمن وعينا الذي نبيّنه عبر قراءة مكثفة، وعابرة السطور، والصفحات، والصحائف.
واليسوع عليه السلام قال: «كل ما أعرفه بحجم حبة الرمل، وكل ما لا أعرفه بحجم رمال العالم». بينما نجد اليوم الفكر يغط في سبات عميق، لأن زمن القارئ النهم قد ولى واندثر، لأن العقل البشري بات مشغولاً بما لا علاقة له بالقراءة، فقد هجر الناس الكتاب واستولت على مشاعرهم رغبات ذات مخالب، وأنياب فتكت في الوعي، حتى استحال العقل مجرد وعاء خاو، وبلا محتوى.
فعندما تغيب القراءة، تهوى من فوق السطح شعلات فتتلاشى، وتنطفئ، ويسود الظلام الحالك فضاء العقل، ويتعثر الفرد، ويكبو، فيغوص في حفر سوداء قد تؤدي إلى هلاكه.
كان العقل في البدء مصباحاً منيراً، ولما اجتاحته جحافل الهشاشة الفكرية، تحول إلى جيفة، تحول إلى بقايا تالفة، في مكب نفايات، ولأن الناس قد ذهبوا إلى نواصي بعيدة عن طموح القراءة، فقد ساورت العقل وساوس، وريبة، وحيرة، حيث اتسع الفراغ، وشسعت بؤر الأوهام، والألغام، والأسقام، والأحكام الباطلة على حقيقة الحياة، وسر علاقة الإنسان بالإنسان، فما هذه التشققات في جسد العلاقات البشرية إلا نتيجة لانعدام الوعي، وانعدام الوعي هو تسرب مباشر للجهل، وما الجهل إلا العتمة التي حلت بالعقل جراء هجران الناس القراءة، واعتبارها طموحاً هامشياً، فظاً، وعديم الفائدة.
القراءة جدول الماء الذي يذهب للعقل، وبين ثنياته يتوغل لكي تنمو الأغصان، ويشتد عود الشجرة، وتسمق، وتبسق، وتسبق الريح في تسلق الفضاء، والوصول إلى هامات عالية، وقامات رفيعة، ولولا القراءة لما صمدت الحضارة البشرية، ولولا القراءة لما استطاع الإنسان أن يهزم أعتى الأحداث وأكثرها دموية في حياته، وعلى مدى التاريخ.
اليوم ونحن وعبر القرن الواحد والعشرين، يصبح للقراءة أشد الأهمية، والضرورة القصوى، لأن عصرنا هو عصر معرفي بامتياز، والمعرفة لا تأتي إلا بالقراءة، والوعي لا يتسع وينشط إلا بالقراءة، فهي الماء، وسر الإنماء للعقل البشري، وكل من يريد أن يتخلص من وهدة التخلف ليس أمامه سوى القراءة، والذاهبون بعيداً عن القراءة، قريبون جداً من الاضمحلال، والضمور، والتقاعس حتى عن الوصول إلى أقرب طرق التطور، والنمو الحضاري.