حوار: ساسي جبيل
صلاح بوسريف، الشاعر والناقد المغربي، حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها، في موضوع الكتابة في الشعر العربيّ المعاصر. درس، إلى جانب الأدب، التاريخَ القديمَ. رئيس سابق لاتحاد كتّاب المغرب، فرع الدار البيضاء. وهو عضو مُؤسِّس لـ«بيت الشعر» في المغرب، وعضو في المنتدى العالميّ للشعر. وأصدر العديد من المؤلفات في الشعر والنقد، وله مساهمات علمية وأكاديمية مختلفة في المغرب وخارجه. «الاتحاد» التقت الشاعر صلاح بوسريف في حوار عن قضايا الشعر والحداثة والكتابة والملامح الراهنة للمشهد الأدبي المغربي والعربي فكان هذا الحوار.
* في أحد مؤلفاتك النقدية، تحدثت عما سميته بـ «حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر» فأين تتجلى معالم الحداثة الشعرية، والأدبية، في الساحة المغربية؟
- هذا العمل أعتبره عملاً مُؤَسِّساً، كونه ذهب إلى نقد الحداثة في مآزقها التي ظل الشعراء والنقاد لا يرغبون في الحديث عنها، أو تفادوها، لأنهم اعتقدوا أن في نقد مآزق الحداثة، هدماً لها، وأن كل التشييدات النصية والنظرية ستبقى من دون مرجع، لأن الصراع كان على أشده مع التقليد والاتباع. هذا كان وهماً كبيراً، وسوء فهم لطبيعة الشِّعر من جهة، ولمعنى الحداثة والحاجة إليها من جهة ثانية.
مفهوم حداثة الكتابة، كان نوعاً من العودة بالشِّعْر إلى مفهومه الشَّامل والواسع، أو إلى بدايات الشِّعْر في أصوله الإنسانية الأولى أي الشِّعْر باعتباره جامع أنواع. فالشِّعْر، وفق هذا التأسيس النظري، كتابة، وليس شفاهة، و«القصيدة» نوع من أنواع الشِّعر وليست هي الشِّعر، وبنيته الأم إنشادية غنائية، تعتمد على الشفاهة، ولذلك اعتبرتُها خطاباً، وليست نصّاً، لأن النص مكتوب، مرتبط بالكتابة، وبمجموع الدوال التي نجدها على الصفحة، بما في ذلك الحذف والبياض والصمت، والرموز والعلامات التي باتت جزءاً من اللغة، أو هي توسيع للغة نفسها، في ما لا تستطيع قوله أو التعبير عنه.
عربياً، نحن لم نخرج من الشفاهة والغناء، أو الصوت المفرد الذي يدور حوله كل شيء، باستثناء الشِّعر المسرحي، وهذا له سياقه الخاص. فأدونيس، مثلاً، حين تحدث في بيانه عن كتابة جديدة، كتب البيان بوعي «القصيدة»، بل بالوعي الشفاهي، وليس الوعي الكتابي، وظل في مفهومه للشِّعر يستعمل «القصيدة» كمفهوم، وهذه ثغرة كبيرة في هذا البيان، وفي بيان الحداثة. ولهذا، حين اعتبرتُ الحداثة العربية معطوبة، كنت أتكلم من هذا المنطلق، ومن هذا المعنى، وليس من «القصيدة» التي ما تزال كمفهوم له سياقه العربي القديم المرتبط بالأوزان الخليلية، وخصوصاً بمعنى التوازي بين الصدر والعجز والتشطير، وكأن لا اسم يليق أن نُسَمِّي به ما نكتبه اليوم، وهو مغاير، في بعض نماذجه الراهنة، لما كان عند «الرواد»، أحرى أن نتحدَّث عن القدماء.
وفي المغرب، «بيان الكتابة» الذي صدر في مجلة «الثقافة الجديدة» كان مُحاكياً في تصوره لبيان الكتابة لأدونيس، على رغم أنه أوْهَم القارئ بالخط المغربي، والكتابة الكاليغرافية، كشرط حداثي يخص المغرب دون غيره! لذلك فالحداثة في المغرب، لم تشرع بالظهور نصياً، إلا في ثمانينيات القرن الماضي، مع الجيل الذي أنتمي إليه، وهي حداثة شرعت في وضع الذات في سياقاتها التي تفرض انتباه الشَّاعر إلى الوجود، وإلى الإقامة الشِّعرية التي كان عليه أن يُرْسيها.
ما بعد القصيدة
* هل يمكننا الحديث عن مفهوم الحداثة في الأدب والشعر، في المغرب وحتى في العالم العربي، ونحن في سياقات عصر عنوانه «ما بعد الحداثة»، وقد سبق لكم أن استعملتم هذا اللفظ الـ«ما بعد» في حديثكم عن القصيدة «الراهنية»، بتسميتها «ما بعد القصيدة»؟
- سبق أن اعتبرتُ مفهوم ما بعد الحداثة مفهوماً تمَّ «التطاوُل» عليه عربياً من باب الموضة والتبعية الثقافية، وهو مفهوم لا يعني شيئاً بالنسبة لنا، لأنه، في كندا وأميركا، تحقَّق، أولاً في المعمار والتشكيل، وفي الشِّعْر ظهرت بعض ملامحه، ولكن الشُّعراء هناك، كانوا على علاقة بما بعد الحداثة، لأنها كانت جزءاً من وجدانهم وكيانهم. وعندنا، الحداثة، كما قلت من قبل، لم تتم، لم ندخلها، لا في العمارة ولا في التشكيل، وسعينا إليها في الشِّعر، وهذا قفز على المفاهيم والتصورات، وعلى المراحل.
الحداثة، هي نفسها ما بعد الحداثة، لأن الحداثة تتجدَّد من تلقاء ذاتها، وهي هكذا في أميركا وأوروبا، وحتَّى عندنا، شرعت في عبور هذا النهر، عند شُعراء مُحدَّدِين، وليس عند الجميع. وكثير من الدواوين الشِّعرية، حين تفتحها تفاجئك بصفحاتها التي فيها شيء جديد، من حيث التوزيعات الخطية، لكن، حين تقرأ المكتوب فيها، تجده كتابة إملائية، الشفاهة فيها والصوت المفرد، هما ما يوجّه الديوان، وهي العنصر المُهيمن فيه. لا حضور لوعي معماري، أو تشكيلي بصري، ولا للفنون المشهدية التي هي بين ما ينجو بالعين، أو بالكتابة من هيمنة الأذن واللسان.
و«القصيدة» بناء مُغْلَق، تامّ، له بنياته ومكوناته، وهي استنفدت قدرتها على الانفتاح والبناء، وعلى الاختراق، لأنها، كما أسميها، بناء مسكون. وأنت لا تستطيع أن تسكن في بناء أو بيت مسكون، فهو ملك لغيرك. ولذلك، حين تحدثت في كتاب «مضايق الكتابة مقدمات لما بعد القصيدة»، كنت أهجس بالشِّعْر، وبالكتابة، وبحداثة الكتابة، التي هي غير حداثة القصيدة التي سَمَّاها بعض «الرواد» بـ«الشِّعر الحر». وما بعد القصيدة، لا علاقة له بما بعد الحداثة، بل هو إثارة الانتباه إلى الشّعر الذي ليس هو «القصيدة»، وهو أوسع منها، ويمكن من خلاله أن نتحرَّر من هيمنة الصوت والشفاهة، ومن هيمنة الصوت الواحد، ونكتب بنوع من الحس الدرامي أو الملحمي، انسجاماً مع الطبيعة المأساوية والملحمية للعالم الذي نعيش فيه.
فالشِّعْر، أفقه ملحمي، وبهذا الوعي شرعتُ في تغيير مسار تجربتي، منذ عقدين من الزمن تقريباً ويمكن أن تلمس هذا في أعمالي الشِّعرية، التي لا علاقة لها بـ «القصيدة»، لأنها آتية من الشِّعْر، من الكثير، والواسع، والمتعدِّد، وما هو بناء مفتوح على المتاهة واللانهائي أو المجهول.
الحساسية الجديدة
* ما رأيكم في مفهوم «الحساسية الجديدة» الذي بات مطروحاً في الساحة الشعرية، وغيرها، مؤخراً، وذلك تقاطعاً مع ما تعتبرونه كتابة بالاختلاف، إن صح تعبيرنا هذا، كتابة لا ترتهن للقائم، وحتى السابق، كتابة بعدية إن أردنا القول؟
- «الحساسية الجديدة» ليست مفهوماً جديداً، ولا مفهوماً بديلاً. فأول من طرح هذا المفهوم، هو الروائي الراحل إدوارد الخراط. وأن يظهر مفهوم، بهذا المعنى، في الشعر المغربي، شيء جيد، علينا أن ننصت إليه، لنرى ما يقوله، وما يقترحه علينا، لكن، شرط أن استمرار أو انقطاع المفهوم مرتبط بإجرائيته، بقدرته على اختراق النصوص والتجارب، أن يبدأ بالنص وينتهي به، لا يقحم أشياء أخرى لا علاقة لها بالنصوص.
والمشهد الشِّعري اليوم، مُضَبَّب، لأن الكثير من الغمام يلُفُّه، وتحتاج منا قراءته، فرز الشُّعراء، أولاً، من خلال النصوص والكتابات، ثم قراءتها من خلال ما تقترحه من قيمة شعرية أو إبداعية. غير هذا، سنكون جنَيْنا على الشعر، وجنَيْنا على الشُّعراء ممن يعملون بشغف، ورغبة في الإضافة والإبداع.
تحولات الكتابة
* بموازاة الكتابة الشعرية المعاصرة التي تتطرق إلى البحث في الأساليب وكسر التوقعات، هناك اشتغال شعري مغربي يريد الخروج من الشعر، من عوالم الكتابة اللغوية، إلى مزاوجته بأساليب وتيارات فنية أخرى تشكيلية وغيرها.. فهل يندرج هذا في ما تسمونه بـ«ما بعد القصيدة»؟ وهل يخدم التقدم والتطور الشعري؟
- حداثة الكتابة، تتبنَّى مفهوم العمل الشِّعريّ، وهذا المفهوم يسمح بالبناء البلّوْرِيّ المتعدد بأضلاعه وأطيافه المختلفة، والمعمار جزء من هذا البناء، ولذلك، حين تعود إلى الأعمال الاختراقية التي فيها مغايرة وابتداع، ستجد أن اللغة لم تعد وحدها تكفي للكتابة، ستجد الفراغات، والفواصل والنقط، والرسوم والأشكال الهندسية، وستجد في الصور الشعرية، نفسها، حضور اللون والمساحة، وحضور الضوء والظل، وغيرها من الأمور التي لم تكن ممكنة في «القصيدة»، ولا في الشِّعْر الذي استغرقتْه الأيديولوجية، أو بقي غارقاً في النَّفَس الشِّعري المغلق، الذي يكون فيه النص هو اللغة فقط.
كثيرون لا ينتبهون لما يجري في الشِّعْر المغربي، عند بعض الشُّعراء من انقلاب في الكتابة، أعني الكتابة التي هي ذلك البناء المستمر، وليس البناء المستقر، لأن النقد خصوصاً، يميل إلى المكتسبات، وحين يحدث الخرق والابتداع، فهو يجد نفسه في حرج من أمره، ولذلك يبقى محشوراً في مساحته الضيقة، التي لم يحدث فيها أي خرق وانقلاب، وربما يعتبر ألا علاقة لهذا بالشِّعر، لأنه هو وضع للشِّعر حدوداً، وهي الحدود نفسها التي في إطارها يكتب ويمتدح ويُطْرِي. وهذا، عندي، ليس نقداً.
الشعر والرواية
* تعرف الساحة الشعرية المغربية مؤخراً زخماً شعرياً من حيث الأسماء، في ظل انزياح البعض نحو الرواية، بل إنه يوجد قول مطروح بقوة بكون هذه الأخيرة قد تحتل المكانة التي كان يحظى بها الشعر، فهل يمكننا أن نتحدث عن صراع شعري-روائي؟ أم أن الأمر يخدم بشكل عام ما تذهبون لتسميته بـ«الكتابة»؟ وما مفهوم «الكتابة» بالتحديد في ظل كل هذه التغيرات القائمة؟
- لا أستبعد أن يكتب الشاعر الرواية، المشكلة ليست هنا، بل في كون الشِّعر يستنفدنا، ووقته لا يتسع لغيره مما يُكْتَب بلغة وأساليب أخرى. حتَّى والشاعر يسعى لإقحام الشِّعر في الرواية، فهو يتعسَّف على الشِّعر وعلى الرواية. وليس كل شاعر قابلاً لأن يكتب رواية جيدة. الرواية اليوم يكتبها الجميع، لكن الشِّعر، نستطيع أن نعرف من يكتبه، ومن يتمَحَّلُه. ولذلك، فالشِّعْر، على رغم كل ما يُقال عن موته أو تقلص عدد قرائه، يبقى هو أعز ما يُطْلب.
ومن هذا المدخل أود أن أعود إلى الأجيال الجديدة، وأتساءل، كيف يمكن لشاعر أصدر ديوانين أو ثلاثة دواوين، أن يتركها خلفه ويذهب لكتابة الرواية، متى كان الشِّعر شاغِله، ومتى وسَّع أفق تجريته الشِّعرية ورسَّخها ليترك الشِّعر ويذهب إلى الرواية؟ هذا، مع الأسف هو المقلب الذي وقع فيه كثير من الشبان، لأن هاجسهم ليس الخلق والإضافة، بل الكتابة والنشر فقط، وهذا ما يجعلهم يكتبون في كل شيء، ولا يتقنون أو يجيدون أي شيء.
أما مسألة الكتابة، فهي مسألة شعرية بامتياز، لأن الشِّعْر في نصوصه الأولى، كان مفتوحاً على السرد والحوار، وعلى غيرهما من الأساليب التي كانت توسِّع زرقة الشِّعْر، انظر «ملحمة جلجامش»، باعتبارها النص الشِّعريّ الأول الذي وصلنا، كيف كان بناؤه، وهو نص فيه السرد، وليس قصة أو رواية، بل هو شعر. بماذا تفسر هذا!؟
وفيما يتعلَّق بالتجارب الجديدة، شخصياً، أتابع باهتمام عدداً من الشُّعراء، أقرأ ما يكتبونه، أنصت إلى تجاربهم، وأرى أنهم قادمون بهدوء، وببحث، وإنصات وتأمُّل، وبتواضع، لا يدَّعون، ولا يسعون للتطاول على ما ليس لهم، وهؤلاء هم من يمكن أن يكونوا أفق شعرية أخرى مغايِرَة، إذا ما بقوا خارج دائرة اللغط والتشويش، والكلام العام الذي يُفْسِد الشعر والشِّعرية، ويُفْسِد الشُّعراء.