غلاء الأسعار..أسباب أخرى
الأسباب الداخلية للغلاء وارتفاع الأسعار لا تقل أهمية وأثراً عن غيرها من الأسباب، إن لم يكن البعض منها الأكثر أهمية وتأثيراً على الاقتصاد وعلى الأسواق، وبالتالي على ارتفاع الأسعار. ومن أهم تلك العوامل ارتفاع أسعار النفط والغاز، حيث وصل سعر برميل النفط الخام إلى ما يقارب 100 دولار أميركي في بعض الفترات من أعوام 2021 و2022. تلك الارتفاعات انعكست على دخل الدولة ومواردها من تسويق النفط والغاز وهو أمر انعكس على الزيادة في الإنفاق الحكومي على مختلف أوجه مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية في داخل الدولة، خاصة على مشاريع البنية التحتية والخدمات العامة من تعليم وصحة وإسكان، وزيادة في مداخيل الأفراد بشكل عام والناتجة عن زيادة المناشط الاقتصادية المتعددة وما تتطلبه مشاريع التعليم والصحة والإسكان. وبالتأكيد أن من شأن ذلك أن يضع في يد المواطنين وسائل جديدة للإنفاق من مداخيلهم المرتفعة، فزيادة إنفاق الدولة في الداخل تعني توافر كمية كبيرة من النقود في متناول الأفراد.
وهناك ظاهرة اقتصادية معروفة في جميع المجتمعات وهي أن الأسواق التجارية عادة ما توظف زيادة الدخول الفردية في المجتمع لصالحها، ما يجعل من هذا العامل واحداً من أهم العوامل التي تؤثر على الأوضاع الاقتصادية في أي مجتمع، ودولة الإمارات ليست استثناءً من ذلك، خاصة عندما تكون الأسواق بالاتساع والتعدد الذي هي عليه. ارتفاع دخل الفرد فرصة كانت ولا تزال تمارس الأسواق التجارية فيها هوايتها في زيادة الأسعار، وذلك نتيجة لزيادة القوة الشرائية لدى الأفراد.
من المعروف عن رأس المال بأنه لا يستقر طويلاً في مكان واحد ويبحث له أصحابه باستمرار عن ملاذات آمنة لاستثماره وتنميته، ويتنقل من مكان إلى آخر خوفاً من الخسارة أو التآكل أو الضياع. وفي الآونة الأخيرة بدأت الكثير من الأموال التي يمتلكها مواطنون في الخارج بالعودة إلى داخل البلاد لأسباب شتى أهمها فرص الاستثمار الناجح في اقتصاد الإمارات، وتقلص فرص الاستثمار الجيد في معظم دول الغرب بسبب الكساد والمنافسة الشرسة، وتجنب المخاطر والخسائر المتعددة فيها والتي لحقت بها في أعقاب التطورات السلبية التي نتجت عن أزمة جائحة «كوفيد- 19»، والهزات المالية والنقدية العالمية التي ضربت اليورو والجنيه الإسترليني، وفي المحصلة النهائية، فإن عودة رؤوس الأموال المهاجرة تعني زيادة كمية النقود والمتداولة في داخل اقتصاد البلاد، وهذا يترتب عليه زيادة حركة الأسواق وارتفاع الأسعار فيها.
وتوجد نقطة مهمة نادراً ما يتم الالتفات إليها من قبل الدارسين لاقتصاد دولة الإمارات ولها تأثير على ارتفاع الأسعار، وهي تغير العادات الاستهلاكية لدى السكان، وتغير نسب إنفاق الدخل على أوجه الاستهلاك المختلفة مع مرور الوقت، وفي ظل التطور الاجتماعي والتعليمي والصحي والعمراني والثقافي، وسائر مجالات العيش، بما في ذلك التوجه نحو الإنفاق البذخي.
هذه العوامل لها تأثيرها في رفع تكاليف المعيشة وارتفاع الأسعار، لكن المشكلة لا تكمن في المقارنة بين ارتفاع أسعار الاستهلاك والدخل، لكنها تكمن في عدم قدرة الدخل الفردي على اللحاق بمستوى المعيشة المتطور، أي أن الاستهلاك أصبح من المظاهر التي تقتضيها أوضاع المجتمع الجديد.
ومجتمع الإمارات الحديث تتجلى فيه هذه الظاهرة بوضوح من حيث سعيه باتجاه كل ما هو أفضل وتبديل أوضاعه السابقة إلى أوضاع معيشية أفضل وفي زمن قياسي قصير، وبالتأكيد أن مثل هذه النزعة نحو التطور المستمر تتطلب احتياجات لا بد من توفيرها لكل فرد وبكل أسرة، وتفرضها عليهم العادات الجديدة بغض النظر عن كونها ضرورية أم كمالية، لكن توافرها صار أمراً ضرورياً في مجتمع يسعى أفراده باستمرار نحو كل ما هو أحدث وأفضل وأحسن، مما يزيد من الضغط على ميزانيات الأسر ويزيد من موجة الغلاء.
*كاتب إماراتي