حين يرفع الإنسان بصره إلى السماء، أو يتأمل خلية صغيرة تحت المجهر، يعود إليه السؤال الأزلي: كيف بدأت الحياة؟ أهي نتاج مصادفة عمياء، أم ثمرة تصميم مقصود؟ لقد شغل هذا السؤال الفلاسفة والمتدينين والعلماء على مر العصور، حتى جاء منتصف القرن التاسع عشر؛ ليقدِّم داروين إجابته الجريئة، ويمنح النقاش مساراً جديداً قلَب التصورات السائدة، وأطلق جدلاً لم ينقطع حتى اليوم، وجعل من سؤال البداية مرآة لا يكفُّ العقل البشري عن النظر فيها.
أما بالنسبة إليّ، فقد بدا الأمر في بداياته، على الأقل في الوهلة الأولى، صداماً مباشراً وتهديداً لهويتي الثقافية والإيمانية. ومع ذلك لم أستطِع الاكتفاء برفضه، فواصلت القراءة، ومتابعة النقاشات العالمية حول النظرية، وأسأل نفسي بإلحاح: لماذا يراها الغرب إطاراً علمياً شِبه مُسلَّم به، بينما نميل نحن في الأغلب إلى التردد والتحفظ إزاء مجرد الخوض في نقاشها؟
ومع مرور السنوات، وكلما تقدمنا في العلم، وانفتحت أمامنا آفاق جديدة، أدركنا أن الصورة ليست بهذه الحدة، ولا بهذه البساطة، فالتقدم العلمي نفسه هو الذي يدفع علماء العصر الحديث إلى النقاش والاختلاف حول نظرية التطور. ولم يعد هناك صوت واحد يهيمن، بل مدارس ورؤى متعددة تتباين في تقييم صلاحية الداروينية لتفسير التنوع الحيوي، وأصل الإنسان.
لقد عاشت البشرية أكثر من قرن ونصف قرن تحت تأثير كتاب تشارلز داروين «أصل الأنواع» (1859)، الذي أحدث ثورة في فهم الكائنات الحية. إلا أن طفرة الجينوم والعلوم الحيوية في العقود الأخيرة تجاوزت ذلك الإرث، لتفتح الباب على أسئلة جديدة لم يكن داروين ولا خلفاؤه قادرين على تخيلها. وهنا برزت أصوات علمية جريئة أعادت طرح السؤال من جديد: هل الانتقاء الطبيعي وحده يكفي لتفسير هذا التعقيد المدهش في الحياة؟
وكان ستيفن ماير، الفيلسوف والعالم الأميركي المتخصِّص بفلسفة العلوم، والحاصل على دكتوراه من جامعة كامبريدج من أبرز هذه الأصوات، إذ طرح ماير في كتب له مثل «شك داروين» و«عودة فرضية الإله»، حججاً مفصلة تقول إن التعقيد المعلوماتي في الخلية، والظهور المفاجئ للأصناف في الانفجار الكامبري، لا يمكن تفسيرهما بالانتقاء الطبيعي وحده، إذ يرى أن هذه المعطيات تدعم فكرة وجود تصميم ذكي يقف خلف الحياة، وهو طرح يلقى اهتماماً متزايداً في الأوساط البحثية الغربية التي طالما تبنت الداروينية بصفتها حقيقة ثابتة.
وعلى الطرف الآخر، نجد شخصيات مثل نيل ديغراس تايسون، عالم الفيزياء الفلكية الشهير، الذي يُعَدُّ من أبرز المدافعين عن نظرية التطور بِعدِّها أفضل إطار علمي متاح حتى الآن لتفسير التنوع البيولوجي، ولكنه في الوقت نفسه يلفت الانتباه إلى أهمية التواضع العلمي، مشدداً على أن وجود ثغرات، أو مناطق غير مفسرة، لا يعني سقوط النظرية، بل يعني أن العلم في ديمومة من البحث والاكتشاف، وكثيراً ما يردد عبارته المشهورة: «الجهل ليس عاراً، العار أن نتوقف عن البحث».
وبين ماير الناقد من جهة، وتايسون المدافع من جهة أخرى، تتجلى صورة النقاش اليوم: جدل علمي وفلسفي متعدد الأبعاد يتحرك في قلب المختبرات ومراكز البحوث، ليعكس اتساع الرؤى وتباينها حول أصل الحياة، وتفسير تنوعها.
وكانت متابعة هذا النقاش بمنزلة محطة فارقة في مساري الفكري، أقرب إلى رحلة اكتشاف داخلي، فقد تبين لي أن اختزال نظرية داروين في عبارة «الإنسان أصله قرد» ليس سوى تبسيط مُخل يظلم مضمون النظرية، ويشوه النقاش. كما أدركتُ أن مواقف الرفض لم تنطلق دوماً من دراسة متأنية، بل كثيراً ما كانت استجابة وجدانية لحماية المعتقد. أما اليوم، فإن المشهد الغربي نفسه، الذي بدأ يوماً ما متماسكاً خلف النظرية، يعيش لحظة مراجعة جادة، وبعض علمائه يقرون علناً بأن النظرية تحتاج إلى تصحيح، أو حتى استبدال.
ولعل ما شدني في هذه الرحلة أن القرآن الكريم نفسه يدعو إلى مثل هذا التأمل، حين يقول الله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» [فُصلت: 53]، فالقرآن لا يطلب منا أن نغلق أعيننا عن الكون، بل إن ننظر فيه بوعي، ونقرأ كتاب الله المنظور (الكون) كما نقرأ كتابه المسطور (الوحي)، ومن هنا، فإن البحث العلمي لا يُضعف الإيمان، بل يعمقه، لأنه يكشف لنا في كل اكتشاف جديد شيئاً من عظمة الخالق وحكمته، وأن الإيمان الحقيقي لا يقوم على الخوف من السؤال، بل على الثقة بأن كل سؤال صادق يقودنا في النهاية إلى الله.
د. ناصر حميد النعيمي
الأمين العام لمجلس التوازن.


