كان الأميركيون في السابق يفخرون بوطنهم على نطاق واسع. ففي يناير2001، كشفت الاستطلاعات عن أن 90% من «الجمهوريين» و87% من «الديمقراطيين» أعربوا عن فخرهم أو فخرهم الشديد بكونهم أميركيين. أما الآن فقد تغير الوضع، فوفقاً لاستطلاع رأي حديث أجرته مؤسسة غالوب، لا يزال 92% من «الجمهوريين» يقولون إنهم فخورون للغاية بكونهم أميركيين، لكن تراجعت نسبة «الديمقراطيين» الذين ينتابهم نفسه الشعور لتصل إلى 36% فقط. ويختلف شعور الفخر الوطني بين أعضاء الحزبين، حيث أن فخر «الجمهوريين» غير مشروط.
ويمكن لديمقراطيين مثل باراك أوباما وجو بايدن الفوز في الانتخابات الرئاسية، ولا يؤثر ذلك تقريباً على فخر «الجمهوريين» بوطنهم. أما شعور الفخر الوطني لدى «الديمقراطيين» فهو أكثر تشدداً. إذ انخفض قليلاً خلال الفترة الأولى لجورج دبليو بوش، ثم بدأ في التراجع تدريجياً خلال فترة الصحوة الكبرى عام 2014، وانهار تماماً خلال فترتي ولاية الرئيس دونالد ترامب. ويتضح هذا التوجه بقوة بين الشباب خاصة، حيث يعبر عدد أكبر من «الديمقراطيين» من الجيل «زد» عن عدم شعورهم بالفخر، إن لم يكن بالقليل، بكونهم أميركيين، مقارنة بمن يشعرون بفخر كبير.
وعلى مر التاريخ الغربي، اعتبر المفكرون البارزون الطموح خطيئة مُطلقة. وعلى مدى فترة طويلة من الحضارة، عاش الناس في مجتمعات ذات نظام هرمي إقطاعي، أي يولد كل فرد بالمكانة التي سيموت بها، سواء فلاح أو تاجر أو أرستقراطي.
وكان الطموح يعني محاولة الارتقاء فوق مكانتك، وبالتالي زعزعة النظام بأكمله. وكان الأطفال الذين يظهرون مؤشرات على الطموح يسمعون قصة «إيكاروس»، الرجل الذي حاول التحليق عالياً فوق مكانته، فسقط على الأرض، ليلقى حتفه. ولم تبدأ سمعة الطموح في أوروبا في التغير إلا مع اكتشاف العالم الجديد، حيث ظهرت فجأة قارات جديدة لاستكشافها، ولم يعد العالم محدود الموارد. ومنذ البداية، أيقظت أميركا أحلاماً وطاقات وطموحات عظيمة. وعندما جاء الكاتب الفرنسي ج. هيكتور سانت جون دي كريفيكور إلى أميركا في القرن الـ18، لاحظ كيف يتحول القادم الأوروبي سريعاً إلى شخص واسع الطموح، يرى المسافات قصيرة والمشاريع ممكنة بمجرد أن يستقر في الدولة. وهذا ما يمنح أميركا جاذبيتها لدى الكثيرين، قدرتها على إشعال الطموح وإيقاظ الطاقة.
غير أن المشكلة تكمن في أن هذه القوة يمكن أن تولد أيضاً فظاظة ومادية وعدم نضج. أي أن الرياح الثقافية التي تدفع طموحات أبراهام لينكولن هي ذاتها التي تغذي استعراض دونالد ترامب ومغامرات إيلون ماسك بين حين وآخر. ولطالما أدرك محبو أميركا المخلصون أن عظمتها الروحية متشابكة مع ماديتها المحرجة.
وفي كتابه «آفاق ديمقراطية» الصادر عام 1871، أقر والت ويتمان أن روح السعي الأميركية تعمل كـ «مدرسة تدريب لإنتاج الشباب العظماء»، و«صالة رياضية للحياة»، تُخرج «رياضيي الحرية»، كما احتفل ويتمان بنبل الطبقة العاملة: «الديمقراطية الشعبية، مهما كانت عيوبها ومخاطرها، تبرر نفسها عملياً بما يفوق أعظم آمال مناصريها». وكان ويتمان وغيره الكثيرون ينظرون إلى لينكولن على أنه تجسيد للعقيدة الأميركية.
وكان طموحه، كما قال شريكه القانوني ويليام هنري هيرندون ذات مرة، مثل المحرك الذي لا يعرف الراحة. وقد أعلن لينكولن نفسه: «أعتقد أن قيمة الحياة تكمن في تحسين وضع المرء». وكان هذا الشعور بالإمكانيات هو ما أحبه فرانكلين روزفلت في أميركا، وقدرتها على تشجيع ما أسماه ابن عمه ثيودور «الحياة الشاقة». جادل روزفلت بأن السعادة «لا تكمن في مجرد امتلاك المال، بل في متعة الإنجاز، وفي إثارة الجهد الإبداعي». إلا أنه في العصر الحالي، يبدو أن معظم الأميركيين فقدوا ثقتهم بكل ذلك.
فقد أظهر استطلاع حديث أن 31% فقط من الأميركيين الآن يؤمنون بالحلم الأميركي القديم بأن أي شخص يستطيع التقدم في الحياة بالعمل الجاد. بينما أوضح نصف الأميركيين تقريباً أنهم لم يعودوا يؤمنوا به، ويقول 23% إنهم لم يؤمنوا به قط. ربما تفسر هذه الحالة من الإحباط سبب صمت الأميركيين وهم يراقبون الصين تتفوق عليهم في مجالات علمية وتكنولوجية متلاحقة، بل يكتب الباحثون الصينيون أبحاثاً في الدوريات العلمية المرموقة أكثر مما يكتب نظراؤهم الأميركيون. وهو ما يثير تساؤل عن أسباب عدم بذل قصارى جهدنا للحفاظ على مكانتنا كأمة المستقبل. ومع ذلك، لا أعتقد تماماً أن الروح الأميركية قد دمرت بالكامل. فرغم أن البلاد في حالة مزاجية سيئة، لكن الحمض النووي الثقافي للأمة ليس بالأمر الذي يمكن إعادة كتابته خلال عقد من الزمن.
وإذا تعمقت أكثر، ستجد أن الأميركيين ما زالوا متمسكين بالقيم التي ميزتهم بوضوح لقرون. ووفقاً لاستطلاع رأي حديث، يرى نحو 80% من الأميركيين أن الهجرة «أمر جيد» للبلاد، بينما يرغب 30% فقط منهم في تخفيض مستويات الهجرة. وأظهر استطلاع آخر أن 83% من الأميركيين يعتقدون بضرورة أن تدافع أميركا عن حقوق الإنسان والديمقراطية حول العالم. كما ترى أغلبية واسعة أن عليها قيادة الأحداث الدولية، من بينهم 69% من «الجمهوريين» و73% من «الجمهوريين» أنصار حملة «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً» أو «ماغا».
كذلك وجدت دراسة حديثة أن الأميركيين ما زالوا يُحبون التنوع، ويرغب ثلثيهم في أن يكونوا أمة أكثر تنوعاً عرقياً وإثنياً. وحتى غالبية المسيحيين البيض لديهم مفهوم متعدد الثقافات لأميركا. وتؤمن نسبة ضئيلة بنظرية «الاستبدال العظيم»، فيما يعتقد 1.1% فقط أن أميركا يجب أن تكون متجانسة عرقياً وإثنياً. ويبدو أن بعض «الديمقراطيين»، مثل حاكم كاليفورنيا غافين نيوسوم، يعتقدون أن بإمكانهم الفوز بالبيت الأبيض باتباع نهج ترامب، والتفكير بطريقته، وتبني النبرة القاتمة التي يجسدها، وهو ما يعتبر ضرباً من الجنون السياسي.
وبالعودة إلى التاريخ، نجد أن الأميركيون فقدوا ثقتهم بأنفسهم في سبعينيات القرن الماضي، بعد إخفاقات «المجتمع العظيم»، والانسحاب من فيتنام، وفساد فضيحة ووترغيت، ورئاسة جيمي كارتر العاجزة، وارتفاع معدلات الجريمة والطلاق، والركود التضخمي، وتدهور المدن الكبرى. لكن لم يكن هذا الفقدان دائماً، بل انتخب الأميركيون رونالد ريغان رئيساً عام 1980، أي اختاروا التفاؤل والوطنية والأمل. ولا يزال هناك، في أعماق الأمة، محرك صغير لا يعرف الراحة.
*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»


