لم تعد أفريقيا فرصةً تلوح في أفق المستقبل، بل بات ينظر إليها باعتبارها محركاً لمسارات النمو والابتكار العالمية. لقد أضحت هذه القارة - التي تضم نحو 1.5 مليار نسمة غالبيتهم من أصغر سكان العالم سناً - مركز ابتكارات متنوعة مذهلة، ترسم معالم جديدة لقطاعات الطاقة والغذاء والتكنولوجيا والثقافة. وأهم ما في ذلك أن يدرك العالم الفرص التي يتيحها هذا النمو الأفريقي، وأن يغتنم مجالات الشراكة الواعدة التي ستوجه مسارات تقدم هذه القارة، وتعزز في الوقت نفسه ازدهارنا واستقرارنا المشترك.
هذا النهج التعاوني ليس جديداً على دولة الإمارات التي شَيّدَت نموذجها الرائد وشقّت مسارات نموها على أسس الاتصال والتجارة، واسترشدت برؤيةٍ طويلة الأمد والتزامٍ بالنمو المتنوع. بالنسبة للإمارات، فهذا النهج فرصة استراتيجية، ومسؤولية أدركتها مبكراً، ففي الفترة بين 2019 و2023، تجاوزت الاستثمارات الإماراتية في أفريقيا 110 مليارات دولار، ما جعلها إحدى أهم الشركاء العالميين للقارة ودولها. ومع هذه الاستثمارات المتنامية وازدياد حجم التجارة في قطاعات الطاقة المتجددة، والخدمات اللوجستية والموانئ، والبنية التحتية الرقمية، وأيضاً القطاعات التقليدية يترسّخ دور دولة الإمارات باعتبارها جسراً بين أفريقيا وآسيا وأوروبا.
وبصفتي مبعوثاً خاصاً لوزير الخارجية لشؤون الأعمال والأعمال الخيرية، شهدت شخصياً تنامي هذه الروابط الاقتصادية وتجذرها وفق غاية مشتركة، وأدركت أن هذا التوافق العميق ينبع من تشابه في الأولويات التي تركز عليها الشركات والمؤسسات والمستثمرين في أفريقيا ودولة الإمارات في أعمالها ومبادراتها، من التعليم وتوظيف الشباب والصحة وتنمية المجتمعات وتمكينها من مواجهة الآثار المناخية، أي أن رأس المال لم يعد يُستثمر في الربح فحسب بل في تحقيق المنفعة وتعزيز الأثر المجتمعي أيضاً.
وتتجلى هذه الروابط الوثيقة في الاجتماع الرفيع المستوى الذي استضافته دولة الإمارات هذا الأسبوع لقادة الأعمال والعمل الخيري من أفريقيا الذين أسسوا أهم الشركات والصناديق والمنصات في القارة، ومؤسسات رائدة تدعم ملايين الأفراد في قطاعات ريادة الأعمال والتعليم والرعاية الصحية والحوكمة.
إنّ الغاية من هذا الاجتماع ليست عقد صفقات أو تصدر العناوين الصحفية بل تحقيقُ مهمة استراتيجية مستدامة هدفها الربط بين المنظومات الرئيسية: رأس المال والمواهب الأفريقية مع رأس المال الإماراتي وقدراته اللوجستية، والابتكار الأفريقي مع المنصات التكنولوجية الإماراتية، والعمل الخيري الأفريقي والإماراتي مع أهداف تنموية مشتركة، والتشجيع على توسيع الاستثمارات والأنشطة داخل دولة الإمارات لتكون نقطة جذب للشركات والصناديق والمبادرات الأفريقية التي تتطلع إلى توسيع تواجدها على المستوى العالمي.
تكتب أفريقيا اليوم قصة طموح وتطور محورها «منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية» التي ستوحّد عند اكتمالها عشرات الأسواق في واحدة من أكبر مناطق التجارة الحرة عالمياً، وستغدو مركزاً لفرص إقليمية جديدة. ولكن بلوغ هذه الطموحات يتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية لتهيئة النقل والخدمات اللوجستية والطاقة والرقمنة، مع إصلاحات تسهّل حركة السلع والخدمات والبيانات ورأس المال عبر الحدود.
وهنا بالتحديد تكمن أفضل فرصة للاستفادة من التعاون بين دولة الإمارات وأفريقيا، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار الاستثمارات الإماراتية في تطوير الموانئ والممرات اللوجستية ومشاريع الطاقة المتجددة في القارة، وإلى توفير دولة الإمارات للشركات الأفريقية الإمكانات للتوسع والانتشار دولياً. يضاف إلى ذلك التوجه الاستراتيجي لدولة الإمارات للاستثمار في مجال التكنولوجيا والابتكار، من الذكاء الاصطناعي إلى التكنولوجيا المالية والزراعية، والذي يفتح مجالات جديدة لإيجاد حلول مشتركة مصممة خصيصاً للأسواق الأفريقية في مجالات، مثل التعليم، والرعاية الصحية عن بُعد، والحلول المناخية.
علينا بداية إدراك أن نماذج الاستثمار والتمويل التقليدية لن تجدي في تحويل هذه التجارب والتطلعات إلى تغييرات منهجية شاملة ومستدامة، فالحل الأمثل لتحقيق نتائج ملموسة هو شراكاتٌ تتكامل فيها رؤوس الأموال التجارية والتمويل التنموي والموارد الخيرية. نرى هذا النهج والعقلية في العديد من القادة الذين استضافتهم الدولة من أفريقيا هذا الأسبوع، إذ يجمعون بين الأعمال التجارية الواسعة والعمل الخيري من خلال مؤسسات مستقلة تركز على ريادة الأعمال وتمكين الشباب والمجتمعات وتعزيز مرونتها. ولدى دولة الإمارات أيضاً توجهات مشابهة، حيث نجد منظومات متنامية من الصناديق السيادية والشركات العائلية والمستثمرين المؤثرين والمؤسسات الخيرية التي لا تركز على العوائد المالية بل على تحقيق نتائج اجتماعية وبيئية ملموسة.
تمتلك الإمارات العربية المتحدة ميزات استثنائية تجعلها المركز الأمثل - بشمولها وموثوقيتها - لهذا النوع من التعاون متعدّد الأطراف، انطلاقاً من موقعها الجغرافي الذي يربط أفريقيا عبر الخليج بجنوب آسيا وشرق آسيا، ومن موانئها وخطوطها الجوية وبنيتها الرقمية التي تصل أكثر من ثلثي سكان العالم بوقت قياسي لا يتجاوز ثماني ساعات، ناهيك عن شبكتها الواسعة من اتفاقيات التجارة والاستثمار التي تسهل سير الأنشطة الاقتصادية عبر الحدود بلا عوائق. بعبارة أخرى، سيستفيد رواد الأعمال الأفريقيين من موقع دولة الإمارات وإمكاناتها الفريدة كمدخلٍ إلى أسواق جديدة، وكمنطلق لاستثمارات مشتركة بين شركات عائلية إماراتية وأفريقية في مجال الطاقة منخفضة الكربون والبنية التحتية الرقمية والتكنولوجيا الزراعية، وأيضاً في مجال المؤسسات الخيرية كي تتعاون لتنفيذ برامج مشتركة، سواء في مجال التعليم، أو مجال تنمية المهارات، وتعزيز القدرة على الصمود المناخي.
أهمية هذا التعاون الاستراتيجي تفوق الوصف، فمن الناحية الديموغرافية ستضيف أفريقيا مئات الملايين من الشباب إلى القوى العاملة العالمية خلال العقود المقبلة، وإنْ فتحنا أمام هؤلاء الشباب أبواب التعليم والأدوات الرقمية وفرص النمو سيُدشِّن العالم حقبة جديدة من الابتكار والتطور تزدهر في ظلها جميع مجتمعاته وسائر شعوبه.
لم يعد الخوض في هذا الميدان مجرد خيارٍ يمكن رفضه، بل واقع ملموس وفرصة مجدية. فالعلاقة بين دولة الإمارات وأفريقيا التي تقوم على الاحترام المتبادل، والازدهار المشترك، ويقينٍ بأن الاستثمار الصحيح هو الاستثمار الهادف، وأنّ مستقبلنا واحد مترابط، يجب أن تكون المحور الذي يؤكد عليه قادة الأعمال الأفارقة المجتمعين في الدولة هذا الأسبوع.
وإن نجحنا في ترسيخ هذا النموذج الذي تنسجم فيه التجارة والاستثمارات مع المعرفة والتكنولوجيا والتعاون الخيري، ستغدو الشراكة الإماراتية الأفريقية قصة نجاح تُحكى لأجيال المستقبل، تُجسّد للعالم نموذجاً لتعاونٍ مثمرٍ بين منطقتين استراتيجيتين تتكامل مقوماتهما لبلورة استراتيجيات مشتركةٍ مستدامة، تحصد ثمارها المجتمعات، وبكل فئاتها، عاماً بعد عامٍ وجيلاً بعد جيل.
بدر جعفر
*المبعوث الخاص لوزير الخارجية لشؤون الأعمال والأعمال الخيرية


