يستثمر العالم مئات مليارات الدولارات في الذكاء الاصطناعي، على أمل أن تبشّر هذه التقنية المتطورة بعصر جديد من الازدهار والنمو الاقتصادي. لكن من غير المتوقع أن تتكلل بالنجاح جميعُ الاستثمارات في الشركات المُطوّرة لتقنيات وبرامج الذكاء الاصطناعي، غير أن بعضها سيخرج أكثر قوة. وقد حدثت الاتجاهات نفسها في أواخر القرن التاسع عشر، حين أدّى الولع الشديد بالسكك الحديدية إلى استثمارات ضخمة في بنيتها التحتية. أفلست شركات عديدة، لكن تكنولوجيا السكك الحديدية ازدهرت وتطورت، مُحدِثةً ثورة في النقل. وتكرر النمط نفسه في تطور صناعتَي الطيران والاتصالات. ومؤخراً، تسببت الاستثمارات الضخمة في الإنترنت في طفرة شركات الإنترنت، التي شهدت رابحين وخاسرين. لكن الإنترنت اليوم أصبح عنصراً أساسياً في الاقتصاد العالمي.
واليوم، تتمحور الأسئلة الرئيسية حول تأثير المئات من مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي التي يتم بناؤها حول العالم على البيئة، من خلال الطلب المتزايد على الكهرباء والمياه، والأهم من ذلك: ما هي عواقب هذه التكنولوجيا على استقرار المجتمعات؟
ومع ازدياد قوة الذكاء الاصطناعي، متى سيصل إلى المرحلة التي يصبح فيها قادراً على الالتفاف على جهود الحكومات في السيطرة على محتواه؟ تواجه جميع الدول تحدياتٍ جمةً مع إدراكها لتأثير برامج الذكاء الاصطناعي المتعددة على مجتمعاتها. ومن أبرز هذه التحديات صعوبة منع الأطفال من الوصول غير المقيد إلى مواد لا يرغب آباؤهم أن يطلعوا عليها، وخاصةً المواد الإباحية. وتتعرض جميع الأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية لضغوطٍ لحماية الأطفال، لكنها تدرك في الوقت نفسه أن الذكاء الاصطناعي قادرٌ على تحقيق فوائد جمة للمجتمع. ثمّة أيضاً تحدياتٌ تواجه الدول المصممة على حرمان سكانها من الوصول إلى المعلومات التي تعتبرها ضارةً بالصالح العام. ومهما كان مستوى صرامة الرقابة، سيجعل الذكاء الاصطناعي من الصعب – والمكلّف – السيطرة على المحتوى.
وإذا وفّرت تقنياتُ الذكاء الاصطناعي الأدوات اللازمة لزيادة الإنتاجية، وحلّت بعض أخطر مشاكل الرعاية الصحية، وفتحت آفاقاً جديدةً أمام المشاريع الريادية التي ستُسهم في ازدهار المجتمعات، فسيكون الناس أكثر شغفاً بالسفر واستكشاف عجائب العالم.
وسيشمل ذلك زيارة الدول التي تُعد «مجتمعات منفتحة» تُشجع حرية التعبير وتُتيح الوصولَ إلى المعلومات، بما فيها المواد المثيرة للجدل.
في ظل هذه الظروف، كيف سيتم منع المسافرين من الوصول إلى المواد الخاضعة للرقابة؟ على سبيل المثال، نجحت الجهود الاستثنائية التي بذلتها بعض البلدان في حرمان سكانها من المواد المتعلقة بأحداث وقعت خلال العقود الماضية الأخيرة، وذلك بفضل جدران الحماية الإلكترونية التي أقامتها. لكن إلى متى ستستمر هذه الجدران إذا ما أصبح الذكاء الاصطناعي أكثر قدرة على توفير طرق بديلة للاطلاع على الماضي؟
لا شك في أن بعض الحكومات ستبذل قصارى جهدها لإبقاء السكان غير مطلعين على أحداث معينة من تاريخها المعاصر، لكن في نهاية المطاف، قد لا يكون فرض هذه الرقابة بلا ثمن.أما الولايات المتحدة، فعليها أن تخوض معاركها الخاصة حول التاريخ وكيفية تقديمه في وسائل الإعلام. فإدارة ترامب مصممة على الترويج لرواية تزعم أن الانتخابات الرئاسية لعام 2020 تم تزويرها لصالح جو بايدن، وأن ترامب هو الفائز الحقيقي.
وهذا على الرغم من الأدلة الدامغة التي تُثبت عكس ذلك، حيث يضطر معظم مؤيدي ترامب الآن إلى قبول الحجة القائلة بأنه كان مُحقاً في الاحتجاج على النتيجة، وأن المسيرة نحو الكونجرس واحتلاله في 6 يناير 2021 كانت مُبررة. وسيكون لكيفية تناول وسائل الإعلام لهذا الحدث مستقبلا، وبصفة خاصة الكيفية التي ستغطيه بها وسائل الإعلام التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، دورٌ في اختبار مخاطر وفوائد هذه الآلات الذكية الجديدة.
*مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشونال انترست» - واشنطن


