حقيقة الدول "الأوليغارشية"!
الخطاب الذي ألقاهُ بشار الجعفري، مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة -الأسبوع الماضي- خالفَ كل أعراف الدبلوماسية، واعتمد على "نوستالجيا" الثورجية العرب، دون أن يرد على كلمتي وفد الجامعة العربية، اللتين تناولتا أحداثاً بالتواريخ والأرقام والإثباتات، كان أهمها سيل نهر الدم المراق لشعب كل تهمته أنه يطالب بحقه المشروع، بحثاً عن حياة أفضل. كما غاص المندوب السوري في التاريخ، وادعى أن بلاده كانت "تتبرع" لحركات التحرر العربي في الخليج ضد الاستعمار البريطاني! لكن الخروج الأهم والأفظع على الدبلوماسية، وعلى وشائج العروبة، خصوصاً في قلعة الأمن العالمي (مجلس الأمن) هو استخدامه لكلمة الأوليغارشية، حين وصف بها الدول العربية التي ساعدت الربيع العربي.
والأوليغارشية تعني ضمن ما تعني: "نجاح مجموعة صغيرة من الناس في البقاء في السلطة، والتحول إلى دائرة إدارة طويلة الأمد. وهي طبقة تراعي مصالح أقلية اجتماعية، وتتحكم بالسلطة والثروات الوطنية، وبالعمليات الاقتصادية المحلية والدولية. ويضمن النظام الأوليغارشي بقاءهُ في السلطة عبر طرق متنوعة، أبرزها: فائض من العنف، عقيدة إجماع وطني مفروضة تخفي الطابع الأقلوي للنظام، وتفريق المجتمع المحكوم لتسهيل السيادة عليه". المصدر: "شبكة النبأ المعلوماتية".
ولا نود هنا الدخول في سجال مع المندوب السوري لدى الأمم المتحدة، لأنه تلقى الرد في حينه من رئيس الوفد العربي الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس الوزراء ووزير الخارجية بدولة قطر. ولكننا نريد توضيح أن أنظمة الحكم في دول الخليج ليست كما أدعى المندوب السوري، لأن أبواب الأنظمة ظلت مفتوحة على مدى الزمن لتسلم شكاوى المواطنين وكانت المنطقة من أكثر مناطق العالم استقراراً، نظراً لارتضاء الشعوب شكل العلاقة بينها وبين حكوماتها وأنظمتها. ولم يحدث أن قتلت هذه الأنظمة 5500 شخص في عشرة شهور، ولم تزج بالآلاف في السجون وتمارس عليهم التعذيب، ولم تأمر المدفعية بدك البيوت وأهلها بداخلها. كما أن دول الخليج قد أخذت بالتحديث -وإن كان بوتيرة بطيئة. وقد برزت ملامح التحديث في نشر الجامعات والمدارس، والمرافق العامة التي صرفت عليها المليارات. ناهيك عن أن دول الخليج كانت وما زالت هي الداعم الأكبر لكل المشاريع الإنمائية في الدول العربية، وهي التي تقترح صناديق التنمية وتقيم المشاريع في البلاد العربية. ولن نطيل في هذا الموضوع حتى لا يُفهم فهماً خاطئاً.
هذه الدول الخليجية التي وصفها المندوب السوري بـ"الأوليغارشية" هي التي تقيم أودَ عائلات عربية تصرف على أهلها في الدول العربية، حيث يعمل مئات الآلاف من العرب في مؤسسات الدول الخليجية وفي الهيئات شبه الرسمية وفي القطاع الخاص. ويحظون بكل احترام من قبل الحكومات والمواطنين. بل إن دول الخليج وضعت قوانين تحمي العامل والموظف الوافد من ربّ العمل، إن حصل اجتراء على حقوقه. كما أن هذه الدول توفر التعليم المجاني والعلاج المجاني لتلك الأعداد الهائلة من الإخوة العرب! بل إن مستشفيات هذه الدول تغصّ بالعرب والعربيات، وبعضهم يأتي بتأشيرة زيارة ويتعالج بكل اطمئنان، وأحياناً يكون علاجه مكلفاً جداً. بل إن هذا الاكتظاظ على المستشفيات يجعل نصيب المواطنين والمواطنات محدوداً لصعوبة حصولهم على مواعيد أو أجهزة التصوير المتطورة نظراً للغالبية من العرب والأجانب. وهذا يفقدهم حتى ميزة الأولوية في العلاج. ولا نعتقد أن هذا يحدث في أي من الدول غير "الأوليغارشية" الديمقراطية.
ولو أتينا إلى تلك الدول العربية الأخرى التي ظلت ترفع شعارات فضفاضة غير دالة على واقع الحال فيها، مما غيّب العقل وحَكمَ الإرادة، لوجدنا أن الحكم يمارس الأوليغارشية بشكل فظيع. ويخالف الشكل الديمقراطي "النوستالجي" الذي يظهر في الصحف والفضائيات. فهذا النظام يتحكم فيه أقلية طائفية ليست من عموم الشعب! وتمنع الشعب من الوصول إلى حقوقه. ويستفرد النظام ومن حوله بمقدرات الشعب. كما يتم تسخير الإعلام للحديث عن كل شيء في العالم ونشر الخطب العصماء لأولئك القادة -عبر ثلاثين عاماً- إلا مصير أموال الشعب، وقضايا النسبة المئوية، التي يفرضها أتباع النظام على كل مستثمر وكل مشروع يدخل البلاد. ناهيك عن رداءة الخدمات العامة، وسوء الإدارة، والفساد والرشوة.
إذن الكرامة الإنسانية مُهانة في تلك النظم الجمهورية العربية "المترفعة" عن الأوليغارشية، والإنسان تلاحقه عيون المخابرات ليل نهار، وأسرار البيوت دوماً تحت تنصت الأجهزة السرية، بل إن الثقة بين أفراد الأسرة تكاد تكون معدومة، لخوف كل فرد من أن يكون الفرد الآخر يعمل في المخابرات. ولقد شهدنا هذا في العراق، وهو موجود في الدول التي سقطت وتلك الآيلة للسقوط.
دعونا نتساءل: ماهي طبيعة المرافق العامة في بلد سياحي مثل سوريا؟! وماذا عمل القذافي بأموال البترول الليبي؟ كم بنى من ناطحات السحاب، ومن الجامعات ومن الطرق في ليبيا؟! وماذا فعل علي صالح بالمساعدات التي كانت تتدفق عليه من كل صوب؟ هل قضى على البطالة ووفر فرص العمل لشعبه؟ هل قضى على آفة "القات" التي تعطل العقل وتهدر الوقت والمال؟! ماذا عمل حسني مبارك في أكثر من ثلاثين عاماً؟ هل قضى على الرشوة؟ هل أبعد أولاده -كما يقتضي النظام الجمهوري الديمقراطي- عن استغلال مواقعهم وأسمائهم للحصول على أموال غير مشروعة؟! هل سمح لكل شرائح المجتمع أن تشارك في الحكم بجانب الحزب الأوحد الذي حكم البلاد دون منازع؟ ثم كيف كان زين العابدين بن علي يعامل خصومه السياسيين؟ وأين الحريات التي كبلها قانون الطوارئ المفروض لأكثر من ثلاثين عاماً؟ ولمن المجوهرات والنقود التي وجدت في مكتبه داخل القصر؟!
هذه نماذج فظيعة لا تمارس في الحكم الديمقراطي! ولكنها حاضرة في النظم العربية التي تدّعي الديمقراطية! وليقارنها العاقل مع واقع الحال في دول الخليج! على رغم اعترافنا بأن هذه الدول بحاجة إلى إصلاحات ليست عصيّة.