«لنكولن»
في واحدة من روائعه السينمائية، يقدم المخرج الأميركي ستيفن سبيلبيرج السينما كما يجب أن تكون، بسحرها وألقها وفتنتها التي تسرق البصر، وتذهب به في رحلة طويلة من الجمال والشاعرية المتصاعدة إلى أعلى، حيث الذوق والحرفية الخلاقة بامتياز، هذا ما يفعله سبيلبيرج في فيلمة الأخير “لنكولن”.
ففي هذا الفيلم يشيع المخرج كعادته سحره الفاتن في توظيف الكاميرا والمواقع والممثلين، وكل عناصر العرض من مؤثرات موسيقية وإكسسوارات، وغيرها، ليقدم أمام عين المشاهد قصيدة سينمائية، ترحل به، ليتعمق في تفاصيل الأحداث بسلاسة وفرجة عالية الجمال، ودهشة متكرره. كما لا يخلو الفيلم من الصدمة، بمشاهد مؤلمة، يعتني المخرج سبيلبيرغ في إظهارها في الكثير من أعماله، متقصداً التذكير بالقسوة والقبح اللذين يزخر بهما العالم، مقابل الجمال في الآن نفسه.. القبح والجمال اللذان يصنعهما الإنسان، حيث هو وحده المسؤول عن عذاباته وعن أفراحه، عن المصير الجميل للبشرية عندما يسكن عقله الحكمة والعدل والحرية، وعن المصير السيئ والقبيح، عندما يسكن عقله العته والطيش والجهل.
في فيلم “لنكولن” المرشح للعديد من جوائز الأوسكار، ومنها أفضل مخرج، وأفضل ممثل، وأفضل ممثل، وممثلة دور ثانٍ، يستعير سبيلبيرج شيئاً من حكاية أحد أكثر الرؤساء الأميركيين نضالاً من أجل الوحدة الأميركية والتحرر، وهو إبراهام لنكولن (1809 – 1865)، ليقدم نضاله من أجل تحقيق شيء من العدالة، وهو إسقاط المادة الثالثة عشرة من الدستور الأميركي، المتعلقة بالعبودية آن ذلك، حيث كان يرزح معظم السود في أميركا تحت وطأة الرق، أحد أقبح الأفعال التي قام بها الإنسان، ويقدم سبيلبيرج نضال لنكولن ضد العبودية، ولا يخفي في نضاله اشمئزازه وقرفه من فعل وقانون الرق الذي يتحول فيه البشر الأحرار بالطبيعة إلى سلعة، إلى شيء آخر غير آدمي على الاطلاق، حيث يشهد التاريخ على الكثير من الأفعال المتوحشة، واللاإنسانية التي عانى منها أبناء القارة الإفريقية، في انتهاك صارخ ودنيء، يشير إلى أي مدى بلغ الإنسان من الانحطاط في غلوه وجبروته، عندما أبحرت تلك السفن العملاقة تقطع عباب البحار والمحيطات لتطأ القارة الإفريقية، لتصادَر حق الحرية والحياة من شعبها، في فعل يمكن وصفه بالعار الذي يجب التكفير والاعتذار بسببه طويلاً لتلك القارة التي انتهكت وسرقت وأنهكت.
يفعل لنكولن، وينجح، في إلغاء المادة الثالثة عشرة من الدستور، ليضع بصمته في التاريخ الأميركي، لكن نار الشر التي لم تخمد بل زادت استعاراً مع إلغاء قانون الرق، تلك النار التي يوقدها القبح البشري، سددت طلقة إلى رأس لنكولن وأردته قتيلاً، لكن ذلك القبس من النور الذي أوقده لنكولن تمادى في الاتساع في تلك البلاد؛ فمنذ لنكولن إلى مارتن لوثر كينج تمكنت أميركا أن تقول شيئاً مختلفاً، وتقدم أحد أكبر دروسها في الديمقراطية، بدخول أول رئيس أسود إلى البيت الأبيض، منتصرة بذلك على الكثير من الجراح والآلام.
في هذا الفيلم، حيث قوة التمثيل حاضرة بامتياز، والمشاهد تبرز كأنها لوحات تشكيلية عالية الإتقان، يقول ستيفين سبيلبيرج إن النضال من أجل قيمة الإنسان وكرامته هو فوق كل الاعتبارات، وما الموت في سبيل القضايا العادلة إلا تكريم وشرف، سيذكره التاريخ على مر الزمان.
saad.alhabshi@admedia.ae