الجمعة 12 ديسمبر 2025 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«دوائر النور» في فضاء الحرف

صياغة حروفية مبتكرة
5 أكتوبر 2025 01:14

سعد عبد الراضي 

«دوائر النور»، المعرض الذي احتضنته مكتبة محمد بن راشد من 17 ولغاية 30 سبتمبر، ليس مجرد عرض للوحات خطية، بل تشكيل أنيق يقدم فيه الفنان تاج السر حسن تجربة فنية متفرّدة، تجعل من الحرف العربي بؤرة إشعاع جمالي، ومن الضوء رفيقاً له في مداراته المفتوحة. بل يمكن القول إنه مغامرة بصرية وفكرية تسعى إلى إعادة اكتشاف الحرف العربي في أفق معاصر، حيث يلتقي التراث بالحداثة، والروح بالهندسة، والكتابة بالنور.

يُبنى المعرض على فكرة الدائرة باعتبارها رمزاً للاكتمال واللانهاية، ومنها تتشعّب التكوينات لتضم المربع والمستطيل والمثلث، وصولاً إلى الأشكال المفتوحة، التي تسمح بفيض غير محدود من المعاني، تتجاوز فيه الحروف دورها اللغوي لتتحول إلى عناصر هندسية وطاقات تشكيلية، تتقاطع وتتناغم وتتمدّد في مدارات بصرية تتوالد باستمرار، ليرى المتأمل الحرف العربي وكأنه لغة نورانية، تتسلل من الورق إلى الزجاج، وتستحضر روح الزخرفة الإسلامية في صياغة مبتكرة تُحاكي الأزمنة الفائتة، وتستشرف المستقبل. ويكشف المعرض عن تكوينات جديدة بالخط الثلث الجلي، والخط الديواني الجلي، لكنها لا تبقى أسيرة الصيغ التقليدية، بل تتطور وتتحرر في مساحات واسعة.

يقول الفنان تاج السر حسن في إحدى إشاراته إلى مشروعه: «إنها قصة الانشغال المستمر بانتقال الخط ومهاراته، والتأمل في صوره المتعددة التي تتجاوز الحروف وتتشابك معها لتخلق نسيجاً كتابياً متجدداً». هذا الانشغال الطويل أنتج لوحات متفردة، تتنفس الضوء وتبثّ حضورها في عين المتلقي، سواء كانت منجزة على الورق اليدوي التقليدي أو منفذة بألوان الأكريليك على القماش.

مستويان أساسيان
ينطلق المعرض من مستويين أساسيين، الأول منهما عبارة عن لوحات منجزة بالخط التقليدي اليدوي، حيث الورق المصنوع يدوياً يحتضن الحروف في انحناءاتها الرصينة، في استعادة لروح المخطوط العربي القديم. أمّا المستوى الثاني فيضم أعمالاً أكثر تحرراً، منفذة بألوان الأكريليك، ومواد مختلفة على القماش، حيث يظهر الحرف في ثوب معاصر، متخفّفاً من صرامة القواعد، ومنفتحاً على التشكيل واللون والتجريب.

لم يبتعد المعرض عن تقاليد الصنعة الأصيلة، إذ استخدم الفنان حبْراً يابانياً معالجاً يدوياً، وورقاً مكيّساً طبيعياً خالياً من الأحماض، وأضاف أوراقاً خاصة لضمان الجودة. كما استعان بالزخرفة والتنقيط المذهّب على الطريقة التركية الكلاسيكية، ليُضفي بريقاً ملكياً على اللوحات. وفي الوقت ذاته، ظل الحرف هو السيد، يقود التجربة ويستحوذ على جوهرها، في حوار دائم مع الضوء الذي يتسلل من بين التكوينات ليعانق عين المتلقي.

إشعاع الحرف
المعرض ليس مجرد ممارسة فنية، بل هو مشروع فكري وجمالي يهدف إلى إعادة الاعتبار للحرف العربي باعتباره رمزاً للهوية ووعاءً للمعرفة، كما يعكس فلسفة ترى أن الحرف يتجاوز الورق ليصبح طاقة روحية، تسكنها الدهشة ويتجلى عبرها الخيال، ومن هنا يتحول الخط العربي إلى لغة كونية، يتشاركها الناس على اختلاف جنسياتهم وثقافاتهم، تماماً كما أراد الفنان أن يضيء فضاءات جديدة للمعرفة والجمال.

في النهاية، يخرج الزائر من المعرض بانطباع أن ما رآه ليس مجرد لوحات، بل رحلة في فضاء الحرف، حيث تتآلف الأشكال الهندسية مع انسيابيات الخط، وحيث تضيء الدوائر مساراً نحو جماليات لا تنطفئ. «دوائر النور» تجربة تنحاز إلى الأصالة، لكنها في الوقت ذاته مغامرة في التجديد، لتؤكد أن الحرف العربي سيظل منارةً تُلهم الأجيال، وتُشع إبداعاً بلا حدود.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©