تحتدم المنافسة بين الغرب والشرق وتتوسع لتشمل قطاعات جديدة، حيث أشرنا إلى بعضها في مقالات سابقة كان آخرها المنافسة حول السيارات الكهربائية، إذ شملت هذه المنافسة مؤخراً قطاع المعادن المهم والحيوي للصناعات الحديثة، بما فيها الإلكترونيات وبطاريات ومواد الطاقة المتجددة.
ويكتسب الصراع الجديد حول المعادن أهمية كبيرة لكون معظم احتياطيات هذه المعادن يكمن في البلدان الناشئة والنامية، في حين يتزايد الطلب عليها في الدول كافة، بما فيها المتقدمة، والتي تواجه منافسةً شرسة تحاول خلالها استخدام الأدوات المتاحة كافة، كالأدوات الاقتصادية، والضغوط السياسية، والإغراءات التمويلية، مما يفسر الكثير من الأحداث الدائرة حالياً، كصراع القوى الكبرى حول مصادر الثروات الطبيعية الأفريقية، وبالأخص المعادن.
ويعتبر الصراع الأميركي الصيني أبرز مظاهر هذه المنافسة وأكثرها تأثيراً، كما أشار سكرتير الدولة الصيني بقوله: إن «خيار الولايات المتحدة والصين بين التعاون والمواجهة سيؤثر على رفاه الشعبين والبلدين ومستقبل البشرية»، وهو قول يعبر بصورة صادقة عن طبيعة الصراع القائم بين الدولتين الكبيرتين.
ورغم زيارات المسؤولين المتبادلة بكثافة بين البلدين للتخفيف من حدة الصراع، كالزيارات المتكررة لوزير الخارجية الأميركية انتوني بلينيكن للعاصمة بكين، والتي دعا فيها مؤخراً إلى «معالجة خلافات البلدين بمسؤولية»، فإن الأمور تسير نحو مزيد من الخلاف على ما يبدو، حيث تزامنت هذه الدعوة مع اقتراح الرئيس الأميركي جو بايدن فرضَ رسوم جمركية جديدة بنسبة 25% على واردات واشنطن من المعادن والألمنيوم الصينية، لتنضاف إلى الرسوم التي فرضها سلفه دونالد ترامب على هذه الواردات عام 2018.
وفي هذا الجانب، فإن المواجهة لا تشمل الدولتين فحسب، بل تمتد لتشمل القطبين العالميين الجديدين بين الشرق والغرب، حيث حظرت الولايات المتحدة في أبريل الماضي استيرادَ بعض المعادن الروسية، كالألمنيوم والنحاس، مستثنيةً بعضها مما يدخل في تشغيل محطاتها النووية. كما أصدرت عقوبات جديدة على موانئ استيراد النفط الإيراني والروسي الخاضع للمقاطعة، والمقصود بذلك موانئ الصين والهند بصورة أساسية.
ومع أن قيمة واردات الولايات المتحدة من منتجات الألمنيوم الصينية لم تتجاوز 1.7 مليار دولار عام 2023، فإن هذا التوجه ينم عن طبيعة الصراع القادم متعدد التوجهات، إذ فتحت واشنطن مؤخراً تحقيقاً جديداً حول صناعة بناء السفن الصينية، مما يعني أن السهام ستطال المزيد من القطاعات في الفترة القادمة، وهو ما يؤكده تصريح وزيرة الخزانة الأميركية جانيت بيلين التي ذكرت أثناء زيارتها الأخيرة الصين أن «كل خيارات مواجهة بكين مطروحة على الطاولة»، داعيةً إلى «مواجهة الإفراط الصيني في الإنتاج»!
وضمن هذا الصراع المحتدم يملك كلُّ طرف جوانبَ قوة وضعف؛ ففي الوقت الذي تملك فيه قوى الشرق مصادر المعادن والمنتجات الرخيصة، بفضل توفر مصادر الطاقة والأيدي العاملة الرخيصة، فإن الغرب يملك قدرات مؤثرة وأذرعاً قوية للغاية تتمثل في مؤسساته المالية وشركاته الصناعية التي استثمرت بقوة في الصين، خلال العقود الماضية، حيث تحاول كل من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي استخدام هذه الأذرع الأخطبوطية للتأثير على النمو في بلدان الشرق، وبالأخص الصين منافسها الأساسي، حيث أعلنت العديدُ من هذه الشركات عن تخفيضات حادة في الوظائف لفروعها العاملة في الصين وتأجيل خطط التوسع المعتمدة سابقاً للسوق الصينية، ومن ذلك بنكا «أتش أس بي سي»، و«مورغان ستانلي» اللذين أعلنا عن تخفيضات كبيرة في الوظائف في فروعهما الصينية، كما خفضت شركة «فيدليتي أنترنشنال ليمتد» العمالةَ هناك بنسبة 16%.
وربما يكون تأثير هذه الأذرع أكثر فعالية من الإجراءات الحمائية الصارمة التي تتخذها الحكومات الغربية، إذ بفضل الطلب المتنامي على السلع والمعادن بصورة خاصة، فإن الصين، وغيرها من الاقتصادات الصاعدة سوف لن تجد صعوبةً في إيجاد أسواق بديلة، إلا أن الغرب سيعاني نقص المعادن، وارتفاع أسعارها في الأسواق الدولية، مما يشير إلى أن العالَم يدخل حقبة جديدة من الصراع ستحدد مستقبل البشرية لعقود طويلة قادمة.

*خبير ومستشار اقتصادي