هناك جهد يُبذل لترتيب نهاية للحرب على غزّة، من خلال وقفٍ لإطلاق النار وتبادلٍ للأسرى وتكثيفٍ للمساعدات الإغاثية من غذاء وماء ودواء وإيواء للنازحين ووقود ومستلزمات لإعادة تشغيل المستشفيات. كلّ ذلك يحتلّ أولويةً قصوى على كلّ ما عداه من قضايا سياسية لن يحلّها استمرار القتال والدمار، بل يفاقمها ويعقّدها. إذ أن سبعة شهور من الحرب أظهرت ما لدى طرفي الحرب من قدرات وآلات موت، وما لدى الأطراف الخارجية المعنية، قريبةً كانت أم بعيدةً، من مواقف ومبادرات للتأثير في مجرى الأحداث. لذا فإن المضي في الشيء نفسه ينذر من جهة بفظائع أكثر بشاعةً، إن لم يكن بأخطاء تاريخية كبرى، كما أن الواقع الراهن لاستغلال غزّة وحربها ووضعها المأسوي يواصل الدفع، من جهة أخرى، إلى تفاعل صراعات المنطقة كافةً وتوسيعها وربما إلى مزيد من الحروب. حتى الآن بدا الأمران الوحيدان الممكنان، والناجزان، هما القتل والدمار، والقليل منهما حصل في مواجهات قتالية فعلية بين جيش إسرائيلي يملك كل ما يحتاجه من ترسانات وبين مجموعات فلسطينية مقاتلة يبقى تسلّحها محدوداً، فيما ظهر الكثير منهما كأنه عشوائي لكنه كان متعمّداً عملياً بدليل أن معظم استهدافاته وجّه ضد المدنيين.

لا تشهد على ذلك الحصائل المتصاعدة للضحايا من أطفال ونساء ومسنّين فحسب، بل أيضاً أعمال التدمير الممنهج لكل المرافق والبنى التحتية ذات الطابع المدني البحت، من أسواق ومخابز ومستشفيات وجامعات ومدارس ومساجد وصولاً إلى تجريف المقابر، عدا استحداث مقابر جماعية لإخفاء الأعداد الحقيقية للقتلى. ليس من شأن هذه الممارسات أن تؤسس للقوّة التي ترتكبها مستقبلاً سويّاً في نسيج المنطقة، خصوصاً أن أي مؤسسة عالمية، سياسية كالأمم المتحدة أو قضائية كمحكمة العدل والمحكمة الجنائية الدوليتين، ستضرب صفحاً عما حصل كأنه لم يكن. وحتى لو حالت التجاذبات الدولية دون محاسبتها فإن الذاكرة الجماعية- لا العربية فقط بل العالمية- لن تنسى. وقد برهنت الوقائع كيف أن أجيالاً كاملة حول العالم تبنّت وعياً جديداً بالقضية الفلسطينية، وبأبعادها التاريخية، ولم تكن متعاطفة مع فصيل فلسطيني بعينه وإنما هزّتها محاولات اقتلاع شعب من أرضه باستهداف أطفاله ونسائه، ألم يقل بيان لـ«الأونروا» أن الحرب «مستمرّةٌ كحرب على النساء»؟

أرقامٌ أولية مذهلة بدأ الخبراء يوردونها عن مئات الملايين من أطنان الدمار والزمن المتوقّع لرفعها ولإعادة الإعمار، وكلّها يُقاس بعشرات السنين، وهذا مع افتراض أن قطاع غزّة ستكون له أولوية مستدامة في ميزانيات المساعدة والاستثمار إقليمياً ودولياً، علماً بأن صراعات وأزمات أخرى في المنطقة تتنافس في حاجتها إلى مساهمات تمويلية. لكن حتى مع توفّر الإمكانات والإرادات فإن وجود أكثر من مليوني فلسطيني بلا مأوى في غزّة أمرٌ ملحٌّ على مباشرة العمل بلا تأخير، بدلاً من إبقاء الناس ضحيةَ خياري الهجرة أو التهجير، وما استمرار الحرب إلا للدفع نحوهما. ليس الوضع الإنساني وحده ما يقلق، بل أيضاً تداخل المنافسات والصراعات الإقليمية وامتداداتها الدولية. فالتبادل الصاروخي، الإسرائيلي الإيراني، كان مجرّد عيّنة قد يكون لها ما بعدها، ليس فقط على صعيد المصالح والنفوذ، بل خصوصاً على آفاق الحلول الجاري بحثها حالياً باتجاه «حلّ الدولتين» وبلورة واقع مستقرّ في الشرق الأوسط. لا بدّ إذاً من نهاية فورية للحرب على غزّة، وما لم يكن الواقع الجديد لمصلحة حلّ تاريخي للمسألة الفلسطينية فإنه سيكون تمديداً لصراعات المصالح حول فلسطين.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن