ثبت فعلياً من متابعة ما يجري في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أن إسرائيل كدولة، وليست كحكومة فقط تحظى بدعم غربي غير مسبوق، وأن الولايات المتحدة ما تزال ملتزمة بالدفاع عن أمن إسرائيل، وأنها توفر لها كافة المتطلبات الأمنية والاستراتيجية لذلك، وهو الأمر الذي سيمتد إلى دعم اجراءات الدولة الإسرائيلية في إتمام الترتيبات الأمنية والاستراتيجية في عمق القطاع، والتعامل اللاحق في الترتيبات الاستراتيجية في الإقليم.

ويبدو أن تغول القوة العسكرية الإسرائيلية على سياسات إسرائيل في الإقليم، يأتي انطلاقاً من أن لدى إسرائيل وفرة قوة يجب أن تستخدم، وأن إسرائيل في حالة تأهب عسكري دائم في الإقليم بصرف النظر عن الأداء العسكري في جبهة غزة، وأن إسرائيل قادرة على خوض مواجهات على أكثر من جبهة، مع التقدير أن هذه الجبهات المناوئة تعمل في أطر محددة منضبطة، وفي ظل قواعد اشتباك مستمرة لا تخرج عن إطارها، مع التأكيد أن إسرائيل لا تزال تحتل أراضي عربية بالقوة، وأن استمرار وجودها دولة مرتبط بتوظيف عنصر القوة العسكرية على الأرض بصرف النظر عن أدائها، وتقييم عملياتها الاستراتيجية في الجبهات المناوئة.

ومن ثم، فإن نظرية الأمن القومي الإسرائيلية التقليدية لم تعد كافية لحماية أمن إسرائيل، ولهذا جرى تحديث الجيش الإسرائيلي ليكون جيشاً ذكياً قوامه 100 ألف جندي، ويعتمد على أحدث أنماط في المواجهة، والاعتماد على تكنولوجيا متقدمة وأنظمة دفاعية متقدمة بالتشارك مع الولايات المتحدة، وعلى رأسها حيتس 1، حتيس 2، ومقلاع داوود، والسماء الحمراء، ومنظومة الليزر، إضافة للسهم والقبة الحديدية الجاري تحديثها بتمويل أميركي، وسوف يتزايد هذا الأمر في مرحلة الترتيبات الأمنية، كما أن القوة الإسرائيلية في مجال فوق التقليدي، بات عقيماً بالفعل، حيث لم يعد لإسرائيل القدرة والإمكانية على استخدام السلاح النووي في أرض المواجهات.

ومن ثم، فإن البديل، وفقاً للرؤية الإسرائيلية، يتمثل في الانتقال إلى تحديث بنية القوات المسلحة الإسرائيلية، واستحداث خطط لتطوير الجيش الإسرائيلي. ومن المتصور أن هذه الخطط سيجري تحديث إطارها بعد الحرب الراهنة على غزة، مع وجود يقين كامل لدى المؤسسة العسكرية، بأن وضع إسرائيل كدولة في الإقليم مهدد، وأن حرب غزة كشفت بعمق عن ضرورة استخدام القوة العسكرية، وتنمية مقدراتها في مواجهة ما يجري، تخوفاً من استهداف الوجود الإسرائيلي كدولة في الإقليم، ما يتطلب الاعتماد على مقاربة توظيف القوة العسكرية المفرطة في التعامل، والحسم مع تطوير القدرات الإسرائيلية في مستويات مختلفة، وهو الأمرالذي يفسر حصول إسرائيل على ثلاث صفقات سلاح أميركية في إطار ما قد تواجهه إسرائيل من مخاطر في الفترة المقبلة.

إسرائيل تُجري أكبر مراجعة لمهام وقدرات المجمع الصناعي العسكري وإنتاجه، ومدى تطوير المطلوب بعد الانكشاف الذي جرى في بنية وأداء الجيش الإسرائيلي، وحاجته إلى مزيد من التسليح النوعي برغم ما بذلته الدولة من مجهودات بشأن تسليح الجيش الإسرائيلي طوال السنوات الـ10 الأخيرة، وجاءت على حساب التعلىم والصحة.

في هذا الإطار يمكن الإشارة الي أن تغول القوة العسكرية الإسرائيلية كما هو جار في الحرب على غزة سيستمر، وإنْ كان من المتوقع ما ستفضي إليه الأوضاع من ترتيبات ستطرح إشكالية رئيسة، وهي الانتقال إلى مرحلة أخرى من فرض الترتيبات الأمنية، بالتنسيق الغربي والأميركي، وهو ما يجب الانتباه له، خاصة وأن حصول إسرائيل على الدعم الغربي سيؤدي إلى مزيد من الترابط الغربي الإسرائيلي، وهو ما ستكرس مضمونه إسرائيل بل، وستعمل على فرضه على اعتبار أنها باتت تعامل مع منظومة معادية تماماً، وأن الجبهات المناوئة تريد تدمير إسرائيل في الإقليم.

ووفق هذا المنظور سيتطلب الأمر تغييراً في مقاربات التعامل، واستعادة قدرة الردع والمجابهة والحسم، وعدم الاتجاه إلى السلام أو التعاون الإقليمي، ما سيؤثر في مناخ التطبيع الجاري، وسيقلل من الاندفاع الإسرائيلي نحو تفعيل اتفاقيات السلام مع الدول العربية في ظل هذه البيئة المعادية، والتي ستتطلب مزيداً من توظيف القوة وخياراتها والاتجاه إلى فرض الخيارات العسكرية على حساب الخيارات السياسية بصرف النظر عن أية سياسات مطروحة، وفي إطار استثمار الدعم الغربي لإسرائيل، وهو ما يجب وضعه في الاعتبار مع التقدير بأن هناك اتجاهات للسياسة الإسرائيلية تعمل في اتجاه تكريس الحصول على قوة الدعم الغربية مرتبطة بالعمل مع الأطراف الأوروبية الداعمة لإسرائيل برغم تباين الرؤى في دعم إسرائيل كمواقف حكومية رسمية، وبين الجمهور الأوروبي الذي ينظر إلى ما يجري في غزة والإقليم من منطلقات إنسإنية وليست سياسية.

وبالتالي لا يجب التعويل على تأثيراته، مع ملاحظة أن أغلب الدول الأوروبية ستشهد انتخابات تشريعية في العام المقبل 2025. وهو ما ينبغي عربياً الاستثمار فيه، والمضي قدماً في مسار إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ما يتطلب استمرار الضغط على إسرائيل، ومحاصرة تمدد وجودها في الإقليم، مع العمل على تقييد حركتها السياسية والأمنية، وتصدير المشكلات من آن لآخر مع إسرائيل- حال عدم تجاوبها مع دعاوى التهدئة - والتهديد الدوري بنزع شرعية إسرائيل في المحافل الدولية، وبما يضر بمكانتها دولة عضواً في الأمم المتحدة.

*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.