في عالم يتسارع فيه إيقاع التغيير وتتقاطع الثقافات وتتعدد التحديات، تظل الأخوّة الإنسانية دعامة أساسية للحفاظ على التوازن بين الأفراد والمجتمعات، وترسيخ قيم الاحترام والتعايش. وعندما تم توقيع وثيقة «الأخوة الإنسانية» في أبوظبي عام 2019، حملت رسالة واضحة بأن الاختلاف ليس سبباً للفرقة بل فرصة للتكامل، وأن الإنسانية لا تكتمل إلا بتعاون أفرادها وشعوبها، بعيداً عن التعصب والانغلاق. لكن مسيرة الأخوة الإنسانية ليست مجرد مسار فكري، بل هي مشروع طويل يتطلب جهداً مشتركاً وإرادة واعية لتطبيق مبادئه في الواقع.
لم تكن الوثيقة وليدة لحظة عابرة، بل جاءت في سياق عالمي مليء بالتغيرات والتحولات التي أثّرت في علاقات الأفراد والجماعات. وقد تصاعدت خلال السنوات الماضية مظاهر الانغلاق الثقافي، وبرزت تحديات جديدة تتطلب مقاربات تقوم على فهم أعمق لمعنى التعايش والتسامح. فالأخوّة الإنسانية ليست مجرد مصطلح عاطفي، بل قاعدة تقوم على التفاعل الإيجابي بين الشعوب، وإدراك أن التنوع مصدر ثراء لا تهديد. وإذا كانت المجتمعات اليوم تبحث عن الاستقرار، فإن الطريق إليه لا يكون إلا عبر فهم أعمق لمعاني التعارف والتعاون، وتجاوز النظرات الضيقة التي تكرّس العزلة والتمييز.
لقد كشفت التجارب الحديثة أن القيم التي نادت بها الوثيقة ليست مجرد أفكار نظرية، بل هي حاجات أساسية لضمان استمرارية العلاقات المتوازنة بين الأمم. في عالمنا المعاصر، حيث تتشابك المصالح وتتداخل الثقافات، لم يعد بالإمكان العيش في عزلة أو تجاهل الآخر، بل أصبح الحوار والتواصل المستمر ضرورة حتمية. والأخوّة الإنسانية، بهذا المعنى، ليست فقط دعوة للتسامح، بل هي إطار جامع يضمن للإنسان أن يعيش في بيئة تقوم على التقدير المتبادل والاحترام. وهي ليست مجرد تقبل للآخر، بل هي بناء لعلاقات قائمة على التعاون والعمل المشترك من أجل الخير العام.
غير أن تحقيق هذه الرؤية يتطلب إرادة واعية ومؤسسات داعمة تعمل على تعزيز ثقافة الحوار وإيجاد المساحات المشتركة، التي تتيح التفاعل الإيجابي بين الأفراد والمجتمعات. وهنا يأتي دور التعليم والثقافة، باعتبارهما الوسيلتين الأكثر تأثيراً في صياغة وعي جديد يعزّز قيم التعايش والانفتاح، بعيداً عن الأحكام المسبقة والصور النمطية. فعندما ينشأ الأفراد في بيئات تعزّز الفهم العميق لمعنى التنوع، يصبح من السهل عليهم بناء علاقات قائمة على الثقة والاحترام، مما يسهم في إرساء أُسس مجتمعات أكثر استقراراً وانسجاماً.
إن التحدي الذي يواجه الأخوّة الإنسانية اليوم لا يكمُن فقط في وجود اختلافات بين الثقافات، بل في كيفية استثمار هذا التنوع لتعزيز التقارب بدلا من تأجيج الفرقة. والتجربة أثبتت أن المجتمعات التي تنجح في استيعاب اختلافاتها وتحويلها إلى مصادر قوة، هي المجتمعات الأكثر قدرة على تحقيق التنمية والازدهار. ومن هنا، فالأخوة الإنسانية لا تعني إلغاء الخصوصيات الثقافية أو الدينية، بل تعني إيجاد مساحات مشتركة تمكّن الجميعَ من العيش بكرامة واحترام، بعيداً عن أي تمييز أو إقصاء.
خلال السنوات الست الماضية، قدّمت دولة الإمارات نموذجاً رائداً في ترسيخ ثقافة التسامح والتعايش، من خلال مبادرات عملية عززت من حضور القيم الإنسانية في مختلف مجالات الحياة. ولعل إعلان عام التسامح 2019، وإنشاء بيت العائلة الإبراهيمية، وتخصيص وزارة للتسامح، كلها شواهد على أن الأخوّة الإنسانية ليست مجرد خطاب، بل مشروع قابل للتنفيذ، يحتاج إلى التخطيط والتعاون بين مختلف المؤسسات والأفراد.
إن العالم اليوم في حاجة إلى إعادة تأكيد التزامه بمبادئ الأخوّة الإنسانية، ليس فقط كفكرة مثالية، بل كنهج عملي يمكن أن يسهم في بناء مجتمعات أكثر استقراراً وانسجاماً. فلا يمكن تحقيق تواصل إنساني حقيقي دون الاعتراف بقيمة الآخر، ولا يمكن ترسيخ السلام دون أن يكون هناك احترام متبادل يتيح لكل فرد فرصته في العيش بكرامة. الأخوّة الإنسانية ليست مجرد دعوة، بل هي مسؤولية تتطلب وعياً عميقاً بأهميتها، وإرادة حقيقية للعمل على تطبيقها في مختلف جوانب الحياة.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة