في عالمٍ تصبح فيه البيانات أهم من النفط، والاتصال أهم من الغذاء، تظهر طبقية لا ترفعُها الثورات، بل تقاوم بالوعي. وإن الثورة الرقمية، بمنتهى الهدوء، تؤسس لطبقية جديدة وهي الطبقية الرقمية، والتي تحولت إلى ما يمكن تسميته بـ «الفصل العنصري الرقمي». ومن ناحية أخرى لا يعيش العالم فقط في عصر التحول الرقمي؛ بل يعاد تشكيله على صورته، مع بزوغ طبقة عليا رقمية تمتلك مفاتيح المعرفة، البيانات، والقرار، تقابلها طبقة دنيا متصلة بالشبكة لكن مفصولة عن السلطة والمال، وذلك الفصل بين البشر لم يعد مسألة مستوى اجتماعي، اقتصادي، ثقافي أو دين أو لون أو قومية فقط، بل بات يقاس بعدد النقرات، بسرعة الاتصال، وبتراكم البيانات في الخوادم التي لا نراها.
الحقائق الصادمة وخريطة الفصل العنصري الجديد وفقاً لتقرير الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) لعام 2025، فإن 2.6 مليار شخص ما زالوا خارج نطاق الإنترنت، أي أن ثلث سكان العالم يعانون من الجفاف التقني وهذا يعني أن هناك عدداً كبيراً من الأشخاص الذين لا يمكنهم الاستفادة من فوائد الاتصال بالإنترنت، مثل الوصول إلى البيانات ومحركات البحث والخدمات الاجتماعية وهؤلاء المنفيون رقمياً لا يملكون حق الوصول للمعلومة التمكينية، وللتعليم الرقمي، ولا للمشاركة في الاقتصاد الرقمي، مما يجعلهم في حكم الطبقة غير المرئية.
كما أن نسبة 82% من البيانات الضخمة في العالم تنتج وتخزن وتعالج في أميركا الشمالية وأوروبا والصين فقط، وفقاً لتقرير مؤسسة «IDC» وماذا يعني ذلك؟ يعني أن قرارات العالم تبنى على تجارب سكان نصف الكرة الشمالي فقط، بينما تترك بقية شعوب الأرض خارج المعادلة. ومن بين أكثر من 100 مليون وظيفة جديدة متوقعة بحلول 2030 في مجالات الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، أكثر من 86% منها تتطلب مهارات لا تتوفر حالياً في أكثر من نصف سكان أفريقيا والشرق الأوسط، حسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي 2024.
نحن أمام نظام إقصائي استباقي، يتم فيه إعداد المستقبل لأبناء طبقة رقمية محددة، ويستثنى منه الآخرون من دون حتى فرصة للمنافسة. حتى أولئك الذين اتصلوا بالإنترنت لا يعيشون في العالم ذاته. ففي حين يتنقل أحدهم بين خوارزميات توصيات مصممة خصيصاً له، يلقى بغيره في تيه رقمي، يتغذى على محتوى سطحي، يستهلكه ولا ينتجه. وإن كان الإنترنت هو المدينة الجديدة، فبعضنا يقطن أحياء تحاط بأصوار وبها القصور والفلل الرقمية الفخمة، والآخرون يرمون خارج السور ليقطنوا في عشوائيات رقمية هامشية مهملة.
ومن جانب آخر فإن 80% من المحتوى العربي على الإنترنت من إنتاج 1% فقط من المستخدمين العرب، وفق دراسة «المرصد العربي للثقافة الرقمية». وهذه النسبة تؤكد أن السواد الأعظم من المستخدمين مجرد جمهور، وليسوا فاعلين في الحراك الرقمي. وفي هذا النظام الطبقي، حتى الذاكرة تخزن وتفلتر حسب الجغرافيا الطبقية الرقمية. فقد تحذف أو تشوه روايات وعادات وتقاليد وأفكار وسرديات وتروج وتمجد أخرى، وتقصى لهجات، وتعمم لغات، كل ذلك بواسطة خوارزميات لا تخضع لأي رقابة وحوكمة منصفة وخاصة أنه في كل ثانية، تنتَج 3.7 مليون عملية بحث على محرك Google، ولكن الخوارزميات لا تعرض للجميع نفس النتائج، بل نتائج طبقتك الرقمية هي ما تراه، وأن كانت تلك مفاجئة لك فإن ما تراه حسب القارة والدولة والمجتمع قد يختلف من دون أن تشعر بذلك. وأول من يمارسون هذا الفصل الرقمي هي المجتمعات التي تسمى ديمقراطية رافضين أن تكون هناك عدالة رقمية شاملة تنطبق على الجميع من دون تمييز.
الحقوق هنا يجب أن تكمن في حق الوصول للمعلومة، وحماية الخصوصية، والمشاركة في إنتاج المعرفة. ولما لا تفرض ضرائب عالمية على شركات التكنولوجيا لتستخدم المداخيل المالية لتمويل البنية التحتية الرقمية في الجنوب العالمي، ولنشر الأخلاق الرقمية ومكافحة التطرف والإدمان الرقمي أو الحرمان المعرفي أو إنشاء مجلس الأمم المتحدة للعدالة الرقمية، أو مجلس الأمن الرقمي الدولي ليراقب أداء الشركات والمنصات كما يراقب أداء الدول في منظومة حقوق الإنسان الرقمية.
*كاتب وباحث إماراتي في التعايش السلمي وحوار الثقافات.


