تميز مؤتمر حزب البعث المنعقد خلال الأسبوع الماضي بدمشق بالمشاحنة المفتوحة التي دارت بين نائب الرئيس عبدالحليم خدام الذي يعتبر أحد بارونات الحرس القديم في سوريا ووزير الخارجية فاروق الشرع. وما حدث أن عبدالحليم خدام اتهم فاروق الشرع في خطاب عنيف بسوء تسيير العلاقات بين لبنان والولايات المتحدة الأميركية. لكن الشرع لم يبق صامتاً بل رد عليه بغضب. ويمكن القول إن الشرع ربح في هذه الملاسنة لأن عبدالحليم خدام الذي ظل أحد الوجوه البارزة للنظام ترك موقعه في القيادة القطرية لحزب البعث بعد أن تقاعد. أما فاروق الشرع فقد حافظ على وزارته وعلى مقعده في القيادة القطرية، ناهيك عن الدعم الواضح الذي كان يتلقاه من الرئيس بشار الأسد.
ويقودنا ذلك الدعم الملحوظ لوزير الخارجية السوري من الرئيس بشار الأسد إلى خلاصة لا مفر منها تتمثل في أن التحركات التي ميزت السياسة الخارجية السورية في الآونة الأخيرة لم تكن في الحقيقة إلا سياسات الرئيس بشار الأسد نفسه. وقد لاحظنا كيف أن تلك التحركات شملت معارضة سوريا للحرب الأميركية على العراق وما ترتب عن ذلك من قطع العلاقات الودية بين البلدين وإصرار سوريا السنة الماضية على التمديد لولاية الرئيس إميل لحود في لبنان، بالإضافة إلى تدهور العلاقات مع فرنسا والانسحاب من لبنان الذي فرض على سوريا.
وفي أثناء ذلك واجهت سوريا تنديدا دوليا حول مزاعم بضلوعها في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وفي الاغتيال الأخير الذي طال سمير قصير أحد الصحفيين البارزين المعارضين لسوريا. ويظل السؤال الآن ما إذا كان عبدالحليم خدام ومصطفى طلاس، العسكري المتقاعد الذي شغل منصب وزير دفاع أسبق لمدة طويلة وأحد الأعضاء المرموقين في الحرس القديم، سيقفان مكتوفي الأيدي أم سينتقدان الحكومة من خارج النظام.
وأمام الضغوط الخارجية التي تمارسها الولايات المتحدة وإسرائيل على سوريا، والضغوط القادمة من المعارضة الداخلية التي تتوق إلى التغيير، لم يجد الرئيس بشار وحزب البعث الحاكم سوى التصرف بحذر بالغ إزاء هذه الضغوط. وقد شهدنا كيف انصب التركيز على مسألة بقاء النظام أكثر من اجتراح مبادرات جسورة أو السير بالبلاد في اتجاه جديد. وفي هذا الصدد لم يتم القيام بأي محاولة لمراجعة البند الثامن من الدستور السوري الذي ينص على أن "حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع". وهو ما يعيق أي توجه حقيقي نحو إقامة التعددية السياسية. وبالعكس من ذلك فقد تم تعزيز القيادة القطرية للحزب عن طريق تقاعد بعض الأعضاء القدامى وتسمية أعضاء من جيل الشباب مقربين من الرئيس بشار.
وبالرغم من الوعود التي قدمت بشأن إصدار قانون جديد للأحزاب السياسية، إلا أنه من الواضح أن ذلك لن يفضي إلى منح الأكراد والإخوان المسلمين أي مكان في المشهد السياسي السوري. وأكثر ما يمكن أن يحصل عليه الأكراد هو منح الجنسية لحوالي 200 ألف من الأكراد الذين يعيشون في شمال شرق سوريا دون هوية، لكن دون السماح لهم بتشكيل حزب سياسي. أما الإخوان المسلمون فما زال نشاطهم محظورا رغم الجهود التي بذلوها لتعديل سياستهم وجعلها أكثر اعتدالا وتخليهم عن العنف واستعدادهم للتواصل مع اتجاهات الرأي الأخرى. وبالرغم من أن أعضاء علمانيين من المعارضة السورية كالشيوعي المخضرم رياض الترك الذي أمضى أكثر من ثماني عشرة سنة في السجن دعوا إلى التعاون مع الإخوان المسلمين الذين يتمتعون بدعم شعبي واسع، غير أن النظام يظل مصراً على إقصائهم. وفيما يبدو على أنه تخفيف من قانون الطوارئ الذي ظل ضاربا بخناقه على الشعب السوري طيلة 42 عاما، فقد أوصى المؤتمر بأن يطبق فقط في المسائل التي تخص الأمن القومي. إلا أن صيغة التوصية الفضفاضة وغير الواضحة لن ترضي المعارضة التي تطالب بالإنهاء الكلي لحالة الطوارئ.
ومن الواضح أن المصالح الأمنية السورية ستظل حاضرة بقوة تماما كما كان عليه الحال سابقا. فالقيادة القطرية للحزب تضم قياديين في الأمن هما اللواء محمد سعيد بخيتان رئيس مكتب الأمن القومي، واللواء هشام بختيار مدير إدارة المخابرات العامة. لكن الأقوى من هؤلاء جميعا هو صهر الرئيس بشار الأسد اللواء آصف شوكت مدير المخابرات العسكرية والذي برز كأحد أعمدة النظام الأساسية والضامن لأمن الدولة واستقرارها.
وبالرغم من أن المؤتمر الحزبي أوصى بضرورة تطور الاقتصاد السوري المراقب من قبل الدولة إلى نموذج "السوق الاجتماعي"، إلا أن هذه العبارة تبقى غير واضحة عند الممارسة. وحتى إذا كان ذلك يعني خصخصة بعض شركات الدولة المفلسة الموروثة من سياسات الارتباط الاقتصادي باقتصاد الاتحاد السوفيتي، إلا أنه من غير المرجح أن يحصل تغيير في السيطرة التي تمارسها نخبة قليلة على الاقتصاد والتي تربط بعض أعضائها علاقات وثيقة مع مركز السلطة. هذا ولم يشر المؤتمر إلى الطريقة التي ستعالج بها سوريا موضوع جذب الاستثمارات الأجنبية الملحة، خصوصا من الجالية السورية الغنية المقيمة في الخارج، ولا إلى كيفية خلق