لم ينجح الضباط الأحرار، طيلة عقدي الخمسينيات والستينيات، في صياغة نظرية ثورية تتجاوز الشعارات العامة التي أصبحت فيما بعد موضوعاً للتندر والسخرية لمدى تعارضها مع الواقع العربي. صحيح أن هناك مواثيق الثورة التي تغلب عليها الخطابة السياسية والمبادئ العامة التي تحتاج إلى تخصيص كي يتم تطبيقها في الواقع العربي. وقد ظلت الخطابة السياسية سطحية من دون أن تنفذ إلى شعور الجماهير على رغم محاولات التوعية السياسية من خلال منظمات الشباب ومعسكرات العمل والمعاهد الاشتراكية، وأمانات الدعوة والفكر، التي زادت في ترديد الشعارات باستثناء القلة التي حولت أيديولوجيات الثورة العربية في تلك الفترة إلى رؤية ثورية، من وجهة نظرها، لحاضر الوطن العربي ومستقبله. ولكن ظلت الخطابة السياسية على مستوى الأذن ولم تدخل في قلوب الناس إلا على نحو حماسي وقتي لبطولة القائد والزعيم الملهم الذي تتمثل فيه قيم الفتوة. ولم تتغير المعتقدات الموروثة، ولم تتحول إلى أيديولوجيات سياسية، أو يحدث تطوير في ثقافات الشعب، وظلت ثمة أمور بمثابة «تابو» تنفذ منه كل محاولات الخداع والإيهام. بل إن بعض الموروث، نظراً لعدم تطوره الطبيعي، تقوقع على ذاته وتحول إلى تطرف أو عدوانية كما ظهر أخيراً في الجماعات الدينية المتطرفة. وظل النقص النظري في ثوراتنا العربية، في الخمسينيات والستينيات، حجر عثرة أمام تطورها، بل إن غياب النظرية الثورية اعتبرته تلك الثورات العربية إحدى محامدها، وكأن التجربة الثورية وحدها كفيلة بسد النقص النظري الثوري. وهنا برز دور المفكرين الأحرار يومها من جديد في إقامة نظرية للثورة وسد هذا النقص النظري الذي عانت منه ثوراتنا العربية في تلك الفترة. فالمفكرون الأحرار علماء اجتماع وتاريخ وسياسة واقتصاد، وكانوا في الوقت نفسه طليعة الثوار في مجتمعاتهم، ومن ثم فهم المؤهلون وحدهم لصياغة النظرية الثورية حتى تستمر الثورات العربية وتتجاوز مرحلة التجارب، وأسلوب المحاولة والخطأ. والنظرة الشمولية للثورة هي القادرة على حل المشاكل الجزئية، وليس تناول هذه الجزئيات كلاً على حدة، وكلما تم حل إحداها حلاً وقتياً ظاهرياً أطلقنا صيحات الانتصار! كما لم ينجح الضباط الأحرار أيضاً في إقامة نظام سياسي شعبي يساند الثورة ويقوي دعائمها، ويحميها. فغابت الشعوب عن التحديث، ولم تشارك في صنع القرار. وظل الفراغ ماثلاً بين الزعامة والشعب. فملأته الشللية والطبقات الجديدة التي عزلت القمة عن القاعدة وأثرت على حسابهما معاً. ومتى ما ضاعت الزعامة الأولى تولت هي السلطة السياسية بعد أن أصبحت لها السيطرة الفعلية على وسائل الإنتاج وسائر مظاهر النشاط الاقتصادي. وأصبحت قمة السلطة السياسية حكراً على الضباط الأحرار، نضالاً أو كفاءة. ومن خرج عن الزمرة انتقل إلى النشاط الاقتصادي الحر أو انزوى في ركن من التاريخ. صحيح أنه يصعب بناء الحزب والثورة في السلطة، فعادة ما تنشأ الأحزاب من الشعب، وتمثل اتجاهات فكرية لديه أو تعبر عن مصالح طبقية، فيه أو تمثل تيارات وطنية على مدى تاريخه. وعادة ما تنشأ في مرحلة نضال وطني، وبالتالي تنشأ كوادر الحزب عن طريق الممارسة والاتصال بالجماهير إلى أن تنتصر الثورة فتتحول كوادر الحزب إلى منفذين لبرامج الثورة، ومحققين لخططها. ولكن ما حدث في حركات الضباط الأحرار، في الخمسينيات والستينيات، كان مختلفاً، حيث تم إنشاء هيئات شعبية بعد انتصار الثورة من أجل تدعيمها. وتنظيم مسيراتها، وإرسال برقيات التأييد ورسائل التهاني خاصة في وقت كانت للأحزاب السياسية السابقة مثل «الوفد» والشيوعيين ركائز شعبية على مختلف المستويات، خاصة «الوفد»، في حين كان الشيوعيون على اختلاف فصائلهم مجموعات من المثقفين، من أدباء وفنانين ومفكرين، ذوي تأثير في الحياة الفنية والثقافية العامة. ولكن ظل أثرهم محدوداً لم يمس الجماهير الأمية، جماهير سعد وثورة 1919. وقد جاء حل الأحزاب لإفساح المجال للجمعيات والهيئات الجديدة لتأييد الثورة، فأسرع إليها الوسطاء والمغرضون والمنافقون والوصوليون وطلاب المناصب. وتحول إلى جهاز حكومي، وأصبح معروفاً في أذهان الناس على أنه حزب الحكومة. كما تحول إلى تنظيم بيروقراطي تغيب عنه الحرارة وتنقصه المبادرات الفردية أو الجماعية من داخل الحزب. كما تحول أيضاً إلى بناء تسلطي مثل النظام السياسي يكون فيه الولاء للنظام وليس للثورة. ولم تكن له جذور شعبية ولم يكن قادراً على قيادة الجماهير، يمكن حله بقرار وعقده بقرار أيضاً. ولم يكن له فكر سياسي يقود الناس، بل كانت مهمته تأييد قرارات الحكومة. حتى التنظيم الطليعي الذي تم تكوينه فيما بعد كعصب للحزب تم بناؤه بعقلية التآمر والحركات السرية. ولم تنجح الثورة في مصر خاصة في بناء الكوادر السياسية، وإعادة بناء الإنسان وتفجير طاقاته، وإشراكه في صنع القرار على نحو منظم. فأدرنا القطاع العام بعقلية القطاع الخاص، وطبقنا الاشتراكية بلا اشتراكيين. وكان من السهل تغيير مسار الثورة دون ظهور أية مقاومة تذكر ثم نبكي على ضياع القيم، وانهيار الأخلاق، وانتشار قيم الاستهلاك، والإثراء السريع، والكسب غير المشروع أو الهجرة، ومغادرة البلاد لعدم الإحساس بالولاء لقضايا البلاد. أو نعاني من مظاهر التراجع في حياتنا والتعصب وتفاقم خطر الجماعات المتطرفة. وهنا يبرز دور المفكرين الأحرار في تعبيرهم عن الوعي القومي الذي يتحد فيه الفكر بالشعب، وبالتالي تتحرك الجماهير بفضل فكرها الذي هو إعادة صياغة عصرية لموروثها القديم، فيتحول الشعب كله إلى نظام سياسي يقوده المفكرون الأحرار. والشاهد على كثير من الثورات التي غيرت مجرى التاريخ والتي قدر لها الاستمرار مثل الثورة الفرنسية والثورة الأميركية والثورة الروسية أنها نشأت أولاً في الفكر أو الأدب، ثم أصبحت فيما بعد ثورات في النظم السياسية والاقتصادية. فقد تمت الثورة الفرنسية التي مهد لها فلاسفة التنوير مثل فولتير ومونتسكيو ودالمبير وديدرو بعد أن تحول الوعي إلى تقدم، والناس إلى تاريخ. وقد تراكم في التنوير كل التراث العقلاني الحديث من رفض لكل سلطة خارجية سوى سلطة العقل. ثم كانت الثورة الفرنسية هي الثمرة الأخيرة لفلسفة التنوير. إن انتشار الأفكار هو الممهد للتغيير. فالأفكار هي التي تزيد من وعي المجتمع حتى يسهل على الثورة فيما بعد إعادة بنائه. والثورة الأميركية وحرب الاستقلال قامتا على أفكار الثورة الفرنسية من اعتزاز بالعقل، وتأكيد على الحرية والديمقراطية والمساواة، وحق المواطن الحر في الجمهورية الحرة كما اتضح ذلك في وثيقة إعلان الاستقلال. ولولا هذه الأفكار لظل العالم الجديد أسير العنصرية والهمجية والتعصب الديني، ومرتعاً لقطاع الطرق وراغبي الثروة والباحثين عن الذهب. وقد تمت الثورة الاشتراكية في روسيا أولاً في القرن التاسع عشر لدى أدبائها ومفكريها وقواها المستنيرة، حتى إنه يمكن القول، إن عصر التنوير الفعلي في روسيا كان في القرن الماضي. حدثت الثورة أولاً في الوعي، وعي بعض المفكرين والأدباء. إنه لا يحدث في الواقع إلا ما يحدث في الفكر أولاً، ولا يحدث في المجتمع إلا ما يحدث في الوعي أولاً. وقد حدث الشيء نفسه في الثورة الصينية عندما بدأ «ماوتسي تونج» في تفسير التراث الديني الشعبي الصيني تفسيراً ثورياً يحرك به الفلاحين، ويدافع به عن مصالحهم فتفسير «ماوتسي تونج» لكونفوشيوس هو تحرير وإطلاق للقوى الحبيسة في وجدان الشعب. فقد تنشأ الثورة الثقافية فيما بعد لمزيد من التحديث، ولمزيد من ربط الأفكار الثورية بالواقع الاجتماعي بعد أن تم تأصيلها في التراث. وقد كان «هوشي منه» شاعراً يلهب خيال المناضلين.