هذه هي مجتمعاتنا تنتهج حياة مختلفة، لم تعتدها، ولم يكن لها أن تبدو كما بدت في هذا الزمن، صار العالم ينزوي في زنزانة التكنولوجيا التي تفقده حضارته الإنسانية، أو سيفقدها على مر العصور القادمة، فالتاريخ الإنساني الجميل أصبح عبئاً لا يحتمل، بل لا يذكر أحياناً ولن يذكر، ومرّرت هذه الثورة المتقدمة أيقوناتها من الحزن والفرح، كبديل للتخاطب الإنساني الشفاف، حتى فقدت الإنسانية الإحساس العاطفي المتبادل.
وبدا البعيد قريباً، والقريب من أهل وأصدقاء لهم عالمهم الافتراضي، وانتهت الرمزية التاريخية التي تحدثت عنها الشعوب طويلاً وألبستها البطولات، بل قلة قليلة لا زالت تحلم بالفرسان الشجعان والمعارك التي طالت الشرق والغرب، ولكن تلك الحقب قد انتهت ولم تعد حتى في الذاكرة، كما انتهت بعض من الشيم والتقاليد العريقة وما بقي منها قد ينصهر في هذا الغليان الساخن، ولو سئلت أجيال اليوم عن تلك الحقب، وماضي الحياة، لربما لن تحسن الإجابة، فالذاكرة مسحت تماماً كل شيء جميل، وباتت على مشارف حياة أخرى لا تؤمن إلا باللحظة التي نعيشها وتعيشها الأجيال تحت وطأة التكنولوجيا.
ولنتصفح الحياة المجتمعية، لنرى ما قد يفعله شخص ما بمجتمع بأسره، لأنه لا وقت لتدقيق في المعلومة الواردة، أو المعارف التي تنتمي إليها، فالكل يقدم نفسه بالطريقة التي يراها مهمة وتترجم ما يصبو إليه.
ولربما بلغ الإنسان ما يريد من التكنولوجيا الحديثة، ولكنها هيمنةٌ على العقول، بتسويق الادعاءات، وحالات من الافتراضات، وتبهرج في إعلانات مبهمة، وقد يقلد المرء نفسه بشهادات علمية كيفما طاب له، وقد يلبس رداء الطبقة المثقفة، لتصدقه بعض العقول الخاوية، وتتبعه بشغف بما يقدم من الطروحات.
وقد تزداد الحياة تعباً أمام إفرازات مجتمعية تزداد ثراء، ليس لأنها ذات مجد حقيقي أو علم ينتفع به، أو أنها ذات إنجازات علمية منفردة، أو لها المكانة في شيء ما يفيد البشرية، أو يسجل لها التقدم.
فهذه هي الحياة تتشرذم أمام هؤلاء الفشلة الحاصلين على شهادات من التواصل المجتمعي، ليعيثوا فساداً، ويكرسوا مناهج كارثية خارجة عن القيم الإنسانية. ومضللة لمنظومة الحياة والمجتمع نفسه، الذي لم يعد يملك أي جزئية من التقييم. فمعظم المعلومات الواردة من قبل الوسائل المجتمعية مزيفة، ومحل تشكيك في النزاهة، وتعليب مختزل ومعاد من سنوات مضت، ويتم طرحها على أساس أنها حديثة، وكل هذا تشويه.
إن لم تنظم هذه الأطروحات فيما تقدمه للمجتمعات، فإننا أمام مساءلة تاريخية، ولم يكن للبشرية من ضعف أو عجز أمام المعضلات التي تصادف الحياة، إلا في هذا الزمن الذي غيب الإنسانية أمام الأمراض الفتاكة، وطمس هويات النسيج المجتمعي.