يجلس الفيلسوف دهراً يقلّب في سؤال الحقيقة، ويخرج في النهاية شاحباً ومهتوك اليقين. وتكون البداية دائماً بكلمة «كيف؟» التي تزلزل العقل وتبث فيه بذرة الشك وتغذي النقيض بضده النقيض. ومن هذه الكلمة الاستفهامية الجارفة، يتولد التوق إلى حقيقة أخرى غير مدركة، تلك التي يشعر بها الفيلسوف في عمقه الدفين، ويحاول أن يتبين ملامحها، ولذلك تراه ينكبُّ على الكتب القديمة حفّاراً في غموضها وأسرارها، وتراه بعد ذلك هائماً في الطبيعة يريدُ أن يربط بين ميلاد العناصر وفناء الأشياء وولادة غيرها. وبمجرد أن يطأ الفيلسوف عتبة البحث عن الجوهر، تكبر في وجهه كلمة «لماذا» وهي الرابط السري بين السبب والنتيجة. ولكن الفيلسوف سيدرك مبكراً أن الأسباب في حقيقتها هي نتائج لأسباب سابقة عليها، وأن النتائج هي أسباب لنتائج سبقتها في لعبة دائمة وأبدية، والخيط الذي يربط بين حدثين في مكانين بعيدين إنما هو الزمن، والزمن ناقصٌ حتى في كماله، حيث لا توجد بداية في الأصل، وإنما يوجد الاكتشاف النسبي للظواهر من وجهة نظر من يراقب نشوئها، وهو هنا الفيلسوف الذي يمحّص الوجود ويحاول أن يربط بين تفاصيله كلها لرؤية المشهد كاملاً. ومع ذلك لا يوجد من يملك القدرة على رؤية الكون كوحدة واحدة، ونحن كبشر نغرق في التفاصيل الصغيرة والضئيلة جداً بحثاً عن جذورنا وأصولنا في الكون، في الذرة وفي الخلية الأحادية، وفي تركيبة الكروموزوم. ويبدو أن الطريق لمعرفة من نحن بالضبط في هذا العالم طويلة وربما بلا نهاية.
في البرامج التلفزيونية العلمية، يتم تصغير مجرة درب التبانة لتبدو في حجم رملة صغيرة تسبح بين ملايين المجرات في اتساع الكون اللامحدود، ولكن مع ذلك لا تقدم هذه الصور المتخيلة المشهد كاملاً، إذ ينبغي للعقل وحده فقط أن يستوعب فكرة اللانهاية واللابداية في المكان وفي الزمان، والفيلسوف هو الوحيد الذي قد تأسره مثل هذه الفكرة بحيث يستطيع أن يرى الوجود كتلة واحدة لكنها لا نهائية في الحجم، ثم يقوم بتصغير الفكرة إلى درجة أنه يقرأ في حبة الرمل الصغيرة، كل معاني الصحراء، ومن تأمله في قطرة مطر، يدرك أن الغيمة هي ماءٌ يجري في السماء. ومن تأملات الفيلسوف هذه تولدُ الحكمة الضائعة التي ينشدها البشر حين يسألهم صغارهم من نحن؟ ولا يملك كبارهم من إجابة إلا الصمت.