لو كانت الأرض ملكاً لرجل واحد، لرأيته يركلها ركلاً ثم يسددها في مرمي اللا شيء. ولو كانت الأرض ملكاً لرجلين اثنين، لرأيتهما يفلقانها نصفين ويصير هذا عدواً لهذا وبعدها يصير كلاهما عدواً لنفسه. لكن الأرض في أصلها ليست ملكاً لأحد. وهي في الأصل مجرد طريق عبر منه الأولون إلى مصيرهم، وسيعبر منه الآخرون أيضاً. والأثر الذي سيتركه البشرُ على صخورها ورمالها وورق أشجارها، إنما هو صوت العابرين، صوت ذكرياتهم المتلاشية وقهقهات مسراتهم القصيرة وآهات آلامهم. والأرض بالنسبة للشاعر حصانٌ أعرج يسابق الريح في درب مستقيم. وبالنسبة للفيلسوف، الأرض تذكرة سفر لنيل اليقين واكتشاف روعة الخوض في أسرارها.
أنا أيضاً ظننت يوماً أن الأرض كلها ملكي. كل شجرة هي أمي وكل جبل هو أبي وأنا نسلهما الذي جرت من أجله الأنهار ليشرب، وسقطت من أجله الأمطار ليغسل بها ذكريات الآخرين، ويبزغُ من جديد في هيئة أملٍ يصعد برعماً ليرى حقيقة الضوء. وكان عليّ أن أبحث عن صوتي الخاص كي تميّزني الطيور عن التماثيل القديمة، وصار ضرورياً أن أحفر في المرايا لاستخرج منها هيئتي كما أريدها أنا محرراً إياها من شكل هيئتي التي يريدها الآخرون. ركضتُ وحاولت أن اقفز على ضعفي وقلة حيلتي، وحين رآني المدرسون أحتقر الأسوار، خافوا على أسئلتهم الغامضة وخبؤوها في الأدراج التي لا تفتح. وحين سمع المتزمتون ضجيج قصيدتي، تخلخلت سيقانهم، وما عادوا يصعدون على المنابر للذمِّ في سيرتي، ولا صار يرفعهم المؤيدون إلا ليرمونهم في البحر.
ها أنا أكبرُ لأصير شجرة أفكار ناشزة وتصير الأرض مسرحي العبثي. في كل صبح يخرج الأطفال لتحيتي فأنثر فوق رؤوسهم أغاني التعالي على اليأس وأناشيد التفاخر بالحياة. ولو يتبعني الأطفال إلى حيث أقفز كل يوم، لرأيتهم يحلّقون أعلى من طيور الأمل، ولرأيت النجوم فصوصاً على قمصانهم. ذلك لأنني لا أملك الأرض فقط، بل الكون كله. حدث هذا حين اكتشفت متأخراً أن الحرية هي انعتاق الذات من الوهم، وأقصد وهم امتلاك أي شيء، حتى جسدك وأفكارك ونواياك. والشخص الذي يتجرد من حب التملّك هو وحده من يملك الكون كله. تماماً مثل الرجل الذي يحمل الأرض مثل كرة صغيرة، يضعها أمامه ويسددها في مرمى الفراغ.