كانت لديّ تلك الرغبة المُلحّة في المعرفة والفضول نحو الأشياء المستورة، والتي تدور في رأسي الصغير، والشغف بالاكتشافات اليومية، ولذة دهشتها، ولو كانت بسيطة، بحجم ظلي، وتسابقي معه، لكنها تظل تشاغبني بأسئلة متتالية، مثل؛ رؤية أول امرأة أجنبية مبتلة بالماء، بشعرها الذي يشبه القهوة المطحونة، عبثي بـ«واير» الكهرباء الرمادي الذي تسلق جدران بيوتنا، جالباً لها النور أكثر من «الصراي والفنر أو حتى التريج» كان يوم دخول الكهرباء لمنازلنا بطريقة خجولة في منتصف الستينيات، يوماً مشهوداً، بقيت أراقب ذلك السلك الذي يشع في آخره، وقبل أن أعبث به مسبباً لي رعشة قوية في اليد، أخافتني، وأبعدتني عن ذلك الفضول الذي يكمن في الأسلاك ذات اللونين الأسود والأحمر اللذين يغلفان السلك النحاسي، واعتقدت بعد انطفاء «لمبة» الإنارة بعد احتراقها بصوت أفزعني أن الكهرباء ستغادر بيتنا للأبد، لذت بصمت الخائف، وأخرست تلك الرعشة الكهربائية القوية أي فضول نحو الأسلاك المتمددة بشكل علني على جدران الطين أو الجص.
من بين الأشياء التي كانت تتسرب لي وأنا جالس كتلميذ غير مرغوب به على الأرض الرملية من أصوات المعلمين العالية، كلمات مثل الجنة والنار، فاعتقدت أن الجنة مثل نخل «بن مانع» خضراء، وفيها أفلاج لا تتوقف، والنار مثل تنور الحارة أيام الشوي في عيد الأضحى، كنت أكتفي بالإشارات المرسلة، بعدها أكمل مهمة التأمل والتخيل وإكمال المشهد.
ذات يوم، وكانت الريح الغربية الباردة ترجف البدن، وبعد جلسة مملة، وأنا أستمع لمدرس الحساب، منتقلاً من رقم إلى رقم في عمليات لا أدرك معناها، ولا تفاعل واضحاً من جانب الطلبة الكبار المنتظمين في الصف، كنت أبحث عن الصور المتخيلة والمختلفة، والأرقام التي يتحدث عنها المدرس «أحمد» المصري السمين جداً لا توحي لي بأي صورة، مثلما كان يفعل أساتذة التاريخ والجغرافيا والعربي، كانوا يبثون لي كلمات، وكنت قادراً أن أحولها إلى صور تعيش معي على أقلها في ذلك اليوم بطوله.
انسحبت من حصة الاستماع المجانية، كأي صبي يعد عبئاً على المكان، لا اسم لي في المدرسة، ولا لي لباس مثل الذي وزعوه على الطلبة، ولا أحظى بلفائف السندويتشات اليومية، ولا أكواب الشاي «الكرك» البلاستيكية الملونة، ولا راتب يصل إلى خمسين روبية، كترضية للآباء المتعنتين ضد التعليم والخوف من البدع وضياع الأولاد وعدم معاونتهم لأهلهم في النخل أثناء تحديرها أو خلابها أو جدها أو خرافها، كانت تلك المشاهرة الشهرية للطلبة بمثابة دخول ناعم للتعليم في العين، كنت أحسدهم، خاصة أولئك الطلبة غير المكترثين والذين يفضلون كرة القدم على المدرسة أو أولئك الذين سينضمون لشركات البترول في جزر أبوظبي البعيدة مبكراً، لحفر «الرقوق» وقيادة شاحنات ضخمة بحجم البيوت، لأنني كنت أقرأ وأكتب، وخطي فيه الوضوح بعكس الكثيرين الذين تشبه خطوطهم مشي الدجاج كما سمعت معلم العربي «الأردني» يقول لهم... وغداً نكمل.