عندما أصبح الحلم حقيقة سرت حافية القدمين، تجذبني أمواج بحرٍ تدنو وتنسحب عن السيِف، فهي تبسط نفسها وتمتد كستارة المسرح قبل بداية العرض ثم تنحسر فيذهب معها الزبد وبعض الأصداف. منظر لم أره مذ كنت صبية صغيرة، فالبحر الشمالي على أطراف الشندغة، كان غنياً برياحٍ أخذت خيالنا بعيداً حتى تسابقت صور البعيد والغريب وغير الواقعي في أذهاننا، فأصبحنا نرى الآخر بلا عجبٍ، بل بإعجاب. وأنا غارقة في ذكرياتي سمعت صوتاً مألوفاً يقول: «خالتي.. السرحانة سلام عليك»، فقلت لها: «وعليكم السلام حيا الله من يانا..» واستأنست لأنها وصفتني بالسرحانة وهي في اللغة العربية أنثى الذئب التي تُعَرفُ دائماً بأنها «هبة ريح»، تمتلك من الشجاعة والعزة بالنفس ما يميزها، فهي الوفية لمن تشاركه الحياة، تعيش وتموت على محبة شريكٍ لا تضاهي غلاه أي ذئبٍ آخر، وهي المعروفة برعاية جرائها والاعتناء بتفاصيل سعادتهم وبقائهم بتفوقٍ لا تعرفه مملكة الحيوان. الأهم من ذلك كله أن السرحانة تبر والديها في كبرهما فتحضر لهما الطعام في الأوكار، وتجتمع الأسرة الممتدة شبابها وشيبانها وأشبالها ويتشاركون حصتهم من تلك الفرائس والغنائم.
وفي المعاجم كلمة سرح لها معانٍ كثيرة فعندما نقول سرَح الشَّخصُ: خرج بالغَداةِ، يَسْرَحُ بِأفْكَارِهِ بَعِيداً: يَحْلُمُ، يَأْخُذُهُ خَيَالُهُ بَعِيداً، تَسْتَغْرِقُهُ الأفْكَارُ، سَرَحَ مُبَكِّراً: خَرَجَ فِي الصَّبَاحِ البَاكِرِ، سَرَحَ السَّجِينَ: أطْلَقَ سَرَاحَهُ، يَسرَح ويَمرَح: يتصرف المرء بحريّة من غير قيد فهو يفعل ما يشاء دون أن يتعرّض له أحد، وإن قلنا سرَحتِ الماشيةُ نقصد أن السراح أطلقها لترعى حيث شاءت، واقترنت كلمة سَرَحَ مع الحرية فالسرحان هو من شرَد وفقد القدرة على رَبْط أفكاره أو تعبيراته وكذلك عندما يقال سرّحَ المرأةَ: طلَّقَها. {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} - {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}: طلِّقوهنَّ من غير إضرار ولا منع حقّ.
فقلت لعلياء بكل فخرٍ وإعزاز: «شكراً لهذا الإطراء فللذئب مكانته في مملكة الحيوان لأنه من السباع أي من فئة الصيادين لا من فئة آكلي الجيف، وهو من الحيوانات التي رسمت خطوط القرابة وعرفت الأنساب، فالذئب لا يتزوج من أمه أو أخته كسائر الحيوانات، ويقيم الذئاب الحداد على موتاهم». إن صفات الذئب كثيرة وقد أبدع في ذكرها بعضهم «أن رجلاً أخذ ذئباً فجعل يعظه ويقول له: إياك أخذ أغنام الناس لئلا تعاقب، والذئب يقول: خفف يا أخي واختصر فهناك قطيع من الغنم أخشى أن يفوتني. وهذا المثل يضرب لمن يريد أن يعظ إنساناً بأمر يخالف طبيعته التي جبل عليها». للعارفين أقول، قرأت للأستاذ سامي حسين أنه من أهم الدروس التي يجب على الإنسان تعلمها من عالم الحيوان تَرتكز على التعاون، تقبل الاختلافات في العرق واللون، بناء الأعشاش والأوكار، الاستيقاظ عند الفجر، استهلاك كامل الطعام، النشاط وتجنب الكسل، الصبر، الولاء، الشعور بالمسؤولية. نحن نتعلم من الغراب والنحل والنمل والعنكبوت وغيرهم من المخلوقات ولله في خلقه شؤون.