في عام 2009 حملتني الأقدار إلى منزلٍ إماراتي تسكنه أجيال من المخلصين للوطن، ففيه تعيش الأماني والطموحات، وقبلها سكنت الإبداعات والعطاء الذي لا يشترط لوجوده سبباً. أذكر أن الخجل نال مني جانباً حينها، فقد تكللت كل خطوة قربتني من عميدة العائلة بترحيب لم يسبق لي أن سمعته في حياتي، وعندما أصبحت أمامي لم يلق بمقامها إلا قبلة على الرأس وأخرى على يمناها. قالت:«مرحباً العاش..قربي تعالي منيه»، أجلستني في زاوية لا تغفل عينها عني، وسارت تنظر إليّ بين الفينة وأختها وتشركني في كل جملة تقولها.
 وجاءت القهوة والقدوع والغداء وما بعد الغداء من محرمات الحمية الغذائية السليمة، ولم أسمع سوى صوتها يأمر بصب العصير وغرف العيش، ووضع بلح السمك في صحني، وإضافة عيش إلى ذلك. ومنذ ذلك اليوم وأنا أشعر بأني ملكة في حيز وجودي وكياني، فهي تعرف جيداً كيف تجعل للمرء مكاناً يشع منه، وكأنه فوق الشمس. كانت بداية لم تعرف نهاية فعلى يد هذه السيدة ترعرعت أجيال من حفظة القيم الإماراتية الأصيلة، في بيتهم يغنم الأبناء والأحفاد علينا القهوة، وفي المجلس لنا موقع الدرجة الأولى أو درجة رجال الأعمال عندما نكون في حضرة ضيوفهم الكرام.
أذكر جيداً كيف سردت عليّ ما تذكره من دبي، التي زارتها في طفولتها في منتصف الخمسينيات تلك الذاكرة استثنائية وتفصيلية، ففيها شممت رائحة تراب المطر ورياح الكوس عندما تهب لتقلب الصيف إلى خريف. عندما عادها الزوار بعد وعكة صحية جلبوا معهم موائد الكاكاو وباقات الورد، التي جاءت بأحجام وأشكال غير معهودة. قالت: «يزاهم الله خيراً وماقصروا وياليتهم حطوا البيزات اللي صرفوها على الكاكاو والورد في صندوق الهلال الأحمر..جان ساعدوا الدولة في خدماتها الإنسانية»، هذه السيدة عميقة التفكير والرؤى لا تشبه إلا نفسها، شخصية لا يكررها الزمان ولا المكان لأنهما في تغير مستمر، وقيمها ثابتة، عندما فاجأها المرض لاذت بالصبر والإيمان ولا سواهما، واستمرت تعلم الأجيال قوة الحب وجمال الأهل ولمة الشمل وتضحية الأم والحكمة التي لم تتفوه إلا بها. كانت صامدة شامخة تكسر كلمتها أقفالاً، وتفتح أبواباً وتحتوي قلوباً، كانت تحب كل الناس ولكل شخص خصصت منزلاً في قلبها وطريقة خاصة تعكس تلك المودة. في لحظاتٍ تغلب فيها القدر افترش الأبناء والأحفاد ممرات المستشفى وعلى ألسنتهم ما تمليه عليهم قلوبهم من أدعية. قدر الله وما شاء فعل وأغمضت عيناها وكان الرحيل.
للعارفين أقول، عائشة بنت حمد العرياني (رحمها الله) شامخة حتى في الرحيل، فقد رسخت في أذهان أحفادها مبادئ السنع والأخلاق الرفيعة، فهم من قام بصب القهوة في مجلس العزاء، وهذا دليلٌ قاطع على استدامة تلك التربية الحميدة. أقول «هذي بيضاء وهاي خليه» فقد فقدنا سيدة بحجم وطن وأُماً كانت لنا كحجر الأساس في الكينونة والوجود.