دار بيني وبين أحد زملاء الدراسة نقاش حامي الوطيس، حول علاقة الماضي و«سامانه» من أدوات ومكملات وعناصر الثقافة والهوية، وارتباطها بالحاضر، وكيف هي جسور المستقبل وآلية بنائها وطرق تطبيقها ووسائل تعليمها. قال لي: «عزيزتي عائشة، بإدراكٍ منا أو بتجاهل مفتعل دعينا نعترف بأن للماضي تأثيراً عميقاً علينا، فهو يُشكّل أفكارنا وسلوكياتنا ومشاعرنا، فتتحكم تجاربنا الماضية وصدماتنا وذكرياتنا في مسارنا المهني وحياتنا اليومية، مؤثرةً على نظرتنا إلى أنفسنا وتفاعلنا مع العالم من حولنا». كان ردي على ذلك معالجاً لتأثرنا بتراكمات الماضي فقلت له: «أيها البروفيسور، هناك ثقافة عريقة تسعى جهود متكاتفة للحفاظ على مخزون إرثها، وكل ما يحفزنا على ذلك ينبع من وعينا بالذات، فالماضي يُوفر مساحةً آمنةً لاستكشاف ما سلف ويجعلنا في يقظة ذهنية تنتج تجارب إيجابية وذكريات مستدامة». فقال بكل جبروت: «علينا أن نتعافى أولاً.. لقد مرت أيامٌ عصيبة على أجدادكم، ولكنهم بتقنيات الصبر والإيمان، لا بل بالحب استطاعوا حل جميعها. وتعجبني يا عائشة كلمة «حل»، هل اطّلعت عليها في معجم لسان العرب؟». قلت له: «أصبت، هذه الكلمة أرى بها تضاريس متداخلة بين الإنسان وبيئته وأمور الحياة، في هذه الكلمة نجد المطر والإبل والزوج وأموراً أخرى تعزّز عروبة وأصالة لهجتنا العامية، فمصطلح «الله يحل فلان ويبيحه» لا تجد مقاصدها إلا في عمق اللغة العربية، ولكن دعنا نضع تصوراً لإعادة صياغة تصورنا للأحداث التاريخية ومعطيات الماضي، حتى يستوعبها الجيل الجديد بأريحية، لا بتنافسية تضع حواجز وعقبات تشوشر عليهم وتحرمهم منها». تراوح الحديث بيننا، وبعد قرابة العشرين دقيقة من الحوار المحتدم قلت له: «تحياتي واحترامي لحضرتك فقد أوشك رصيد مكالمتي على الانتهاء، ولكني أعدك بمواصلة الحديث في القريب العاجل»، فقال: «لا تقطعينا» فقلت له: «الله يقطع عنك الشر والبلاء، إن شاء الله».
أغلقت الهاتف وفكري مشغولٌ بما دار بيننا من حديث، وتذكّرت مقولة طالما ترددها والدتي، رحمها الله: «الحي يحييك والميِتْ يزيدك غبن»، ومن الماضي الذي لا نذكر منه إلا صفاء قلوب ناسه وجمالهم، جالت في الذهن صور منها ما نراه من المخلوقات الدقيقة في ماء الخرس، وأذكر عندما حضرت الثلاجة إلى منزلنا أول مرة أكرمتنا بالماء البارد، الذي كانت أمي تقول عندما تشربه في وهج الصيف: «ياحي الحياة». كل ما نذكره ونتذكره سندوّنه ونقوله ونحفظه في سجلات ذاكرة هذا الوطن الغالي، حتى نضمن استمرارية موروثه، ويتعرف العالم إلى إنسانية أهله المستدامة.
للعارفين أقول: قرأت لأحد الحكماء مقولة: «من يبحث عن الخير في الناس فسيجده أولاً في نفسه.. ومن لا يبحث إلا عن نقائصهم فسيتعثّرُ بعيوبه». في دولة الإمارات العربية المتحدة ندعو الله أن يديم علينا نعمة الجمال والعلم والإنسانية، فهذا كل ما يحتاجه العالم في الوقت الراهن، والله المستعان.


