في منتصف الستينيات وفي منزلٍ متواضع في منطقة زعبيل كانت تسكن جدتي، وكنا نستمتع بزيارتها في الأعياد وعُطل المدارس، فقد كانت تخفّف عن والدتي وطء المسؤوليات، فنبيت عندها، وما أجمل تلك الذكريات.
كنا نرتص على فراشٍ واحد وكأننا في علبة للسردين، وما إن نتعشى ونغسل أسناننا وأرجلنا من غبار السكيك اللي كنا نراكض فيها، حتى هرعنا للضحك ونحن نتجاذب أطراف اللحاف، وندسّ وجوهنا تحت الغطاء ونعتبر العالم لا يرانا فقط لأننا لا نراه. بعد لحظاتٍ من ذلك المشهد تأتي وتجلس في منتصف الغرفة وكأنها تُنصف المتلقين لقصصٍ ستسردها، فلا تميل يميناً أو شمالاً حتى لا يعتقد أحدنا أنها تُفضّله على الآخر. تجلس هذه السيدة التي كنت أراها من العمالقة آنذاك ولا أرى منها سوى ما يعكسه الضوء من ظلٍّ على جدار الغرفة، وتبدأ ببرنامج المساء والسهرة، وعادةً ما تسألنا «سويرة ياسويرة تحتها ما تحتها..تحتها ثلاث بنات وولد»، فنسارع لتخمين هذي خالتي مريم فتقول: «لا»، فنسابق على الإجابة: «عيل خالتي عفراء»، ويطول التخمين ولا تتركنا حتى نصل إلى الإجابة الصحيحة، لقد أدركت الآن أنها كانت تُعرّفنا بمن يسكن حولنا من أهلٍ ومعارف ومحبين.
سعيدة بنت مبارك (جدتي) ولدت في الشندغة عند مطلع القرن العشرين ولم تنجب والدتها سوى أربع بنات، لذا كانوا يسمونهن «بنات سلامة»، وقد تغيّرت التسمية لاحقاً عندما وُلد أخوهم الصغير «مبارك» فأصبحن خوات مبارك. أمايه سعيدة كانت سيدة لطيفة وفي جوهر شخصيتها تكمن امرأة قوية، وبالرغم من أميّتها كانت تقرأ الشخصيات جيداً وتُتقن فنّ الإنسانية والعطاء، أكثر ما يعجبني فيها تلك الأبيات الشعرية والأمثال التي كنت أسمعها الضحى وهي تنقّي العيش في الرايح، فقد كانت كنزاً من المعلومات لم أدرك إلا بعد وفاتها. من تلك الأبيات أحفظ ما كانت تقول فيه: «لي ما يبونك وش تباهم يا قلب ما تقبل لي انصاح عقوك في غيّة هواهم ناسٍ يدارونك بالأمزاح وش فيك ما تنقل عزاهم وتشوم قبل لا تييك الافضاح».
للعارفين أقول، شكراً لقيادتنا الرشيدة على عام الأسرة الذي سيجعلنا أقرب إلى موروثنا وفلسفة حياتهم. وكما سننشد السلام الوطني يوم الثاني من ديسمبر متّحدين، سنتّحد لحفظ ثقافتنا وتفاصيلها التي هي هويتنا وقلبنا النابض بحب الإمارات.


