في الستينيات من القرن العشرين شاعت كلمة الرجعية بمعنى الشتيمة الثقافية، وتقتضي إقصاء الشخصية الموصوفة بالرجعية وتشيين سمعته، ومن ثم تقليل قيمته مهما تكن إبداعاته، ومن أبرز أمثلتها وصف بدر شاكر السياب لإليوت بالرجعي العظيم، وهو موقف ضد الرأسمالية الغربية، وكل ما يمت لها بصلة، ويعم ذلك حينها بين الشيوعيين العرب، وتبعاّ لهذا الوصف تجنب السياب الإحالات إلى إليوت واستعاض عنه بإيدث ستويل، رغم أنها إنجليزية مثلها مثل إليوت، غير أنها لم تكن معروفةّ بين الشيوعيين العرب ولذا لم تكن تثير الريبة، وقد كان السياب حينذاك شيوعياّ ثم تخلى عن الحزب الشيوعي وأصبح قومياّ، لكنه لم يراجع موقفه من إليوت.
ومما شاع في تلك المرحلة وصف أدونيس بالرجعية بسبب ارتباطه بالحزب القومي السوري، وهو حزبٌ معادٍ لفكرة القومية العربية، التي كانت سائدةّ حينها، إلى أن تنبه أدونيس لنفسه وتقرب لليساريين من باب غسيل السمعة. ولا شك أن التوجه اليساري حينها كان هو قائد التوجيه الثقافي، وأشد أسلحتهم هو وصف المخالف بالرجعي في السياسة أو في الشعر والثقافة.
وطوى الزمن اليسار وهيمنته الثقافية وبقيت الساحة من دون شتمٍ محدد الهوية والتوجه، ولكن ومع تفجر وسائل التواصل الاجتماعي وتغيّر خرائط التعبير والتلقي، جاءت مفردة (التافه)، وتلعب هذه الكلمة وظيفةّ تماثل كلمة الرجعي التي تطلق من دون تأسيس منهجي، تماماً كما كان وصف إليوت وأدونيس بالرجعية من دون تأسيس نقدي، وتأتي كلمة «التفاهة» حسب استخداماتها المتواترة اليوم فقط للطرد والإقصاء كما كلمة «رجعي» سابقاً، وتمضي كلمة تفاهة بيسر وسهولة، لأنها لا تحتاج إلى جهد بحثي، وهي تصدر من العقليات الطبقية، فصفة الرجعي تصدر عن حقد طبقي من البروليتاريا ضد النخب الرأسمالية، في حين تعكس كلمة التافه الاتجاه المضاد، إذ تأتي من الطبقية النخبوية ضد الجماهيرية، وفي الحالين فهذه الشتائم علاماتٌ ثقافيةٌ تحيل إلى صرعات التأثير وبيد من، ففي الماضي كانت الأجواء الثقافية يسارية الهوى، وهي صاحبة الصيت والسلطة المعنوية، واليوم تحاول النخبة أن تتمسك بسلطتها وترتعب من أي شيء يهدد هيمنتها فاندفعت لوصف كل ما يخالف أنظمتها الذهنية والذوقية بأنه (تافهٌ)، وتعتقد أن هذا يكفي لسحق التغير النوعي في أنظمة الاستقبال، وترى أنها بذلك قد أجهزت على التحولات، وأنها ستفرض موروثها على فضاءات الثقافة، ولكن وكما انتصرت صورة إليوت ولا أحد يصفه اليوم بالرجعي، وكذلك انتصرت صورة ألف ليلة وليلة ولا أحد يجرؤ على وصفها بالتافهة، فإن الشتم الثقافي لن يصمد كذلك أمام التغيرات النوعية.
وفي النهاية فأبرز سمات (الشتم الثقافي) أن ممارسيه لا يقرؤون المنتج الموصوف بذلك، ومن ثم لا يصدرون عن معرفة ولا تحليل ولا استقراء، وتنتشر عدواه باستسهالٍ يبدد شروط المعرفة النقدية والتأصيل النقدي.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض