يُعدّ تاريخ الحضارات المتنوعة حجرَ الزاوية في تشكيل الفهم الحديث للأخوة الإنسانية. فعبر الزمان والجغرافيا، تركت كل حضارة بصمتها المميزة في مسيرة البشرية نحو التعايش والاحترام المتبادل. من ضفاف دجلة والفرات ومعابد مصر القديمة إلى بلاط العلماء في الصين والهند، ثم إلى الحضارات الإسلامية والأوروبية المزدهرة، قدّمت كل حضارة نماذجها الخاصة في الفكر والقيم وأساليب العلاقات الإنسانية. وقد شكّل هذا الإرث وعياً يرسّخ، رغم اختلافاتنا، أن جميع الناس يرتبطون بقيم أساسية من الكرامة والعدالة والسلام.
ويُظهر التاريخ أن الحضارات التي انخرطت في التجارة والحوار والتبادل الثقافي كانت أكثر قدرة على تحقيق التقدّم والازدهار المشترك. لم يظهر مفهوم الأخوة الإنسانية بين عشية وضحاها، بل تشكّل على مدى قرون من خلال لقاءات الشعوب وامتزاج الأفكار وتشارك الحكمة بين الديانات والتقاليد المتنوعة.
ومن بين العلماء الذين جسّدوا قوة المعرفة في ربط الثقافات كان ابن رشد - الذي عُرف في الغرب باسم «أڤيروس». كان فيلسوفاً وقاضياً وعالماً أندلسياً في القرن الثاني عشر، وأدّى دوراً محورياً في تعزيز التفكير العقلاني والحوار والتفاهم المتبادل بين الحضارات.
في عصرنا، برزت دولة الإمارات العربية المتحدة كمنارة للأخوة الحديثة، لكنّ جذورها في التبادل الحضاري عميقة. فقد كشفت عمليات التنقيب الأثرية الأخيرة في الربع الخالي، وفي حدود الإمارات، عن بقايا مدن حضرية متقدمة تعود لأكثر من 5000 سنة. وتشير هذه المدن القديمة، التي يُجرى التنقيب فيها حالياً، إلى وجود طويل الأمد للتجارة والتواصل الثقافي والتنظيم الاجتماعي في المنطقة. ولم تكن هذه الصحراء أرضاً خالية، بل كانت مفترق طرق حيوي ضمن شبكة تفاعل نشطة تربط بين حضارات بلاد الرافدين وآسيا والمشرق.
وتنتشر دلائل هذا الإرث الغني في جميع أنحاء الإمارات. ففي الفاية بالشارقة، تم تقديم ملف ترشيح موقع الفاية رسمياً واعتماده أمام لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو، التي كشفت عن أدوات من العصر الحجري ومواقع دفن وأحد أقدم طرق القوافل الداخلية التي تربط الخليج بالداخل العربي. أما في العين، فيكشف منتزه هيلي الأثري المدرج ضمن قائمة اليونسكو عن قبور تعود للعصر البرونزي ونظام فلج ري متطور، يُعدّ جزءاً من حضارة «مجان» القديمة التي أقامت علاقات تجارية نشطة مع بلاد الرافدين ووادي السند. في إمارة دبي، يكشف موقع ساروق الحديد عن صناعة معدنية متقدمة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، بينما تُظهر الصفوح مقابر تعود للعصر البرونزي تعكس الحياة المبكرة في المنطقة.
كما تبرز منطقة جلفار برأس الخيمة، والتي تظهر بقايا حضرية وتجارية تعود للعصر الإسلامي، تدل على دور الإمارات الطويل في التجارة العالمية. أما في منطقة الدور في أم القيوين، أحد أكبر المواقع الأثرية قبل الإسلام، فقد كشفت التنقيبات عن مستوطنة مزدهرة ومركز تجاري نشط من القرن الأول قبل الميلاد حتى الثالث الميلادي، فيها معابد وحصون وبضائع مستوردة من حضارات مختلفة. وعلى جزيرة صير بني ياس في أبوظبي، تشير بقايا دير مسيحي قديم إلى تاريخ روحاني وتسامح ديني عميق. أما في جزيرة السينية في أم القيوين، فتم العثور على أقدم دير مسيحي معروف في الخليج، مما يُبرز ثقافة التعايش والانفتاح الديني.
هذا الاستمرار التاريخي العميق يؤكّد مكانة الإمارات، ليس فقط في الحوار المعاصر حول الأخوة الإنسانية، بل في جذور التبادل بين الحضارات. فقد كانت هذه الأرض دائماً ملتقىً للشعوب والأفكار والأديان، وهو إرث حي يدعم التزامها الحالي بالتعايش السلمي والحوار العالمي.
الإمارات منذ تأسيسها بقيادة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، رسخت رؤية تقوم على التسامح والاحترام المتبادل، رأت في التنوع الديني والثقافي قوة، لا تحدياً. وقد واصل هذا النهج صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، عبر مبادرات عالمية تُجسّد مبادئ التعايش السلمي. ومن أبرزها وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية، التي وقّعها في 2019 قداسة البابا فرنسيس الراحل والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر.
ومن خلال مؤسسات مثل بيت العائلة الإبراهيمية، ووزارة التسامح، وسَنة التسامح، أصبحت الإمارات مثالاً حياً على أن الأخوة يمكن أن تتحول من رؤية إلى واقع، محلياً وعالمياً. وتقود هذه الجهود اللجنة العليا للأخوة الإنسانية، التي تعمل بالتعاون مع الأمم المتحدة، واليونسكو، ومع جامعات دولية، على برامج عملية لنشر قيم الكرامة والحوار والتراحم.
التعليم في قلب هذا التحول. فمن خلاله يُربّى جيل على الاحترام والتعاطف والانفتاح. وتعمل اللجنة على إدخال برامج أخلاقية عالمية تركز على التعاطف، وتنمي مهارات مثل الذكاء العاطفي، والمعرفة الرقمية، والمسؤولية المالية، والتكنولوجيا الأخلاقية.
الشباب بدورهم، بقدرتهم على الابتكار، عنصر جوهري في نشر التسامح. وتمنحهم اللجنة منصات من خلال المدارس، والمنتديات، والتبادل الثقافي ليكونوا رواداً للتفاهم. كما تسهم الفعاليات الرياضية، مثل «سباق الأخوة الإنسانية» في أبوظبي، في جمع الناس من مختلف الخلفيات، وتُعد اللجنة لإطلاق سباق عالمي، عبر القارات الست، في اليوم الدولي للأخوة الإنسانية تحت شعار: «عالم واحد. سباق واحد. أخوة إنسانية واحدة».
وفي هذا الإطار، يُعقد المؤتمر الدولي للأخوة الإنسانية في جاكرتا – إندونيسيا، يومي 29 و30 يوليو 2025، بتنظيم مشترك بين اللجنة العليا للأخوة الإنسانية والجامعة الإسلامية الدولية الإندونيسية. وسيتضمن إطلاق المعهد الإندونيسي للأخوة الإنسانية، مركزاً أكاديمياً افتراضياً لدعم البحث والتعليم والتسامح الديني. ويغطي المؤتمر قضايا تمكين الشباب، والعدالة الاجتماعية، والتعليم، والمسؤولية الإعلامية، والابتكار الأخلاقي، ويجمع قادة فكر ومجتمع مدني من أنحاء العالم.
الأخوة الإنسانية ليست فكرة مثالية فحسب، بل رحلة تاريخية بُنيت على قرون من التفاعل والحكمة المشتركة. وتقف الإمارات اليوم في مقدمة هذه الرحلة، تنشر رسالة التعايش والسلام من خلال التعليم، والشباب، والرياضة، والثقافة. والرسالة واضحة: باعترافنا بإنسانيتنا المشتركة، نستطيع بناء عالم أكثر سلاماً ووحدة.
السفير الدكتور/ خالد الغيث*
*الأمين العام للجنة العليا للأخوة الإنسانية.


