أبرم الاتحاد الأوروبي، في الآونة الأخيرة، اتفاقيةً تجاريةً مع الولايات المتحدة تُعد بمثابة استسلام للرئيس دونالد ترامب. صحيح أن هذا الأخير كان قد تراجع مسبقاً عن خطوته التصعيدية الأولى في حرب الرسوم الجمركية، بعد أن أثار قلق الأسواق، لكن منذ ذلك الحين، بدأ يحصد سلسلة من الانتصارات، وقد نجح في ترسيخ مستوى جديد من العائدات الجمركية لصالح الولايات المتحدة، دون أن يواجه ردودَ فعل انتقامية تُذكر من شركائها التجاريين.
ويُمثل الاتفاق الذي توصلت إليه أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، مع ترامب، الواقعَ الجديدَ الذي باتت فيه معظم الدول مستعدة لدفع تكلفة أعلى مقابل الحفاظ على الوصول إلى السوق الأميركية، فيما يبدو أن العالم هو من يتراجع ويتنازل، لا الولايات المتحدة.
وهنا يكمن درس قاسٍ، ليس فقط للمراقبين الذين يأملون في سياسة تجارية أوروبية أكثر صرامة، بل أيضاً لكل مَن تخيل خلال الأشهر الأولى من إدارة ترامب الثانية أن الولايات المتحدة، بقيادتها الحالية، قد ينتهي بها الأمر معزولةً عن الساحة العالمية.
لقد كان هذا الوهم بالعزلة مصدراً للراحة والشماتة في آنٍ واحد لدى اليبراليين المناهضين لترامب، إذ يُقدم تصوراً لإمكانية الهروب السياسي من الشعبوية، مع إعادة بناء الثقافة الليبرالية في تورنتو أو أكسفورد أو الدول الاسكندنافية، ورؤيةً لأميركا ترامبية تُعاني من عقاب اقتصادي، مع ارتفاع أسوارها وعزلتها وازدهار بقية العالم من خلال التبادل التجاري المتعدد.
لكن كلا التصورين، نظام اقتصادي عالمي يعزل أميركا ونظام ليبرالي يستمر من دونها، يُمثلان قراءةً خاطئةً جوهريةً للوضع العالمي، وهو ما يبدو أن القادة الأجانب الذين رضخوا لمطالب ترامب يدركونه تماماً.
ما يدركه هؤلاء القادة أن القوة الاقتصادية الأميركية أكبر من مقاطعتها أو عزلها أو تجاهلها. فقبل فوز ترامب عام 2024، كانت القصة الاقتصادية تدور حول تفوق النمو الأميركي بشكل واضح على نظيريه في أوروبا وشرق آسيا. ومنذ عودته إلى السلطة، أصبحت القصة الاقتصادية تتمحور حول أن السياسات الحمائية، التي يندد بها جميع الاقتصاديين تقريباً، لم تمنع سوق الأسهم الأميركية من الارتفاع، ولم تعرقل استمرارَ عجلة النمو الأميركية.
وحتى لو ارتكب ترامب مغامرة أخطر وتسبب في ركود اقتصادي، ستظل القوى التي تُفضل الولايات المتحدة على ألمانيا أو بريطانيا أو كوريا الجنوبية أو اليابان قائمةً في الإدارة المقبلة وما بعدها. فغالبية أقرانها الليبراليين الديمقراطيين تقريباً أفقر منها، ومتصلبون لدرجة تمنعهم من تجاوزها بقفزة مفاجئة. أي أنه لا توجد منطقة مزدهرة نابضة بالحياة ديناميكية ريادية قادرة على أن تحل محل أميركا في شبكة من الاقتصادات الحرة، وبالتالي لا بديل عن التجارة مع شركات الولايات المتحدة وعن الوصول إلى أسواقها، حتى لو كان ذلك بتكلفة تفرضها سياسات ترامب.
صحيح أن جمهورية الصين الشعبية تتمتع بالقوة الكافية لمواجهة تعنت ترامب، وبالديناميكية التي تؤهلها لموازنة القوة الاقتصادية الأميركية، لكن مخاطر التحول كلياً نحو فلك الصين تظل أشد وطأة من تكاليف التعامل مع إدارة ترامبية في واشنطن. وهذا لا يعني أن دولاً أخرى لن تزيد تجارتها مع الصين بسبب الحمائية الأميركية. ولكن لا يوجد سيناريو واقعي تحل فيه الصين محل الولايات المتحدة ببساطة كشريك وركيزة وحيدة للعولمة.
هنا تتداخل القصة الاقتصادية مع القصة السياسية. فإذا كان من غير المعقول تصور ازدهار شبكة من الاقتصادات الأوروبية والآسيوية من دون العملاق الأميركي، فمن الأبعد تصور نظام عالمي ليبرالي يعيد تشكيل نفسه بمعزل عن الولايات المتحدة. ويتعلق الأمر جزئياً بالقوة الصلبة، أي الهيمنة والنفوذ، فالنظام العالمي الليبرالي الذي سيتألف في هذه الحالة من أوروبا الغربية وكندا لن يكون نظاماً قائماً بذاته، بل مجرد كيان متحجر. وحتى مع تلاشي نظام ما بعد الحرب الباردة، وتباهى أميركا بتصرفاتها انطلاقاً من مصلحتها الذاتية البحتة، لا تزال الولايات المتحدة مُطالبة بالتوسط في العديد من النزاعات حول العالم.
ولو تراجعت القوة الأميركية تماماً عن هذا الدور، فلن يكون هناك بديل ليبرالي جاهز ليحل محلها. والتنازلات التي قدمها أعضاء الناتو لترامب فيما يخص أهداف الإنفاق العسكري، تشبه التنازلات التجارية التي قدمها الاتحاد الأوروبي، وتعكس وعياً بحقيقة أنه من الأفضل دوماً دعم السلام الأميركي، بدلاً من محاولة بناء نظام ما بعد أميركا.
إلا أن النقطة السياسية الحاسمة الأخرى هي أن أزمة الليبرالية عامة، وليست خاصة بالولايات المتحدة وحدها، وليس هناك ملاذ واضح للهروب إليه من الصراعات الأيديولوجية القائمة في عصرنا.
إن وجود «رجل القدر» المتمثل في ترامب قد منح الشعبوية الأميركية قوة خاصة، إلا أن الأمر ليس وكأن الليبرالية تزدهر في أوروبا أو شرق آسيا بينما تنهار في أميركا. فالشعبوية تحكم بالفعل في إيطاليا والمجر، وقد تتولى الحكم قريباً في فرنسا وبريطانيا، وهي في تصاعد بألمانيا، وحتى اليابان وكوريا الجنوبية تشهدان أشكالاً من الاستقطاب ما بعد الليبرالي.
كما أن التقدمية الغربية لها سمات لا ليبرالية واضحة، فالدول الأوروبية الخاضعة نظرياً لحكومات ليبرالية تمارس قمعاً لحرية التعبير، وأحياناً للديمقراطية ذاتها. وقد تؤدي التوترات الناتجة عن التعددية الثقافية إلى نظام أوروبي أكثر هشاشة من النظام الأميركي. كما أن النزعات الراديكالية والارتدادية في القارة تحمل بصمة أميركية واضحة.
وعلى مر السنين، هناك أميركيون من اليسار واليمين على حد سواء، قرروا الهجرة بحثاً عن أوضاع أكثر ملاءمة سياسياً مع معتقداتهم، هرباً من اليقظة في أوروبا الشرقية، أو هرباً من السياسات الترامبية في كندا أو بريطانيا. وقد ظلت نصيحتي الثابتة لهؤلاء الأصدقاء أنه مهما تكن مُثلكم العليا أو مخاوفكم، ومهما تكن قناعاتكم بشأن المجتمع المثالي، فإن المعارك التي تهمكم ستُربحونها أو تخسرونها داخل الولايات المتحدة. فالملاذات وهمية، والبدائل إما ضعيفة أو مشوهة، ومستقبل الحرية، إما أن يكون أميركياً، أو لن يكون للحرية مستقبل على الإطلاق.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
روس دوثات*
*صحفي أميركي


