تعرف باريس مستهل الأسبوع المقبل من 15 إلى 17 ديسمبر مؤتمراً فلسفياً تنظمه جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية بشراكة مع المعهد الفرنسي للإسلاميات، في قاعة السّوربون الكبرى. وقد اختير لهذا المؤتمر عنوان معاصر «العلم والمعتقد والمعقولية»، ويهدف المؤتمر، كما في ورقته التّقديمية، إلى بحث علمي جاد لعلاقة العلم بالمعتقدات في أفق تحليل العلاقات الشائكة التي أثيرت وتثار حولهما في أفق إضفاء طابع من المعقولية على هذه العلاقة الملتبسة.

وسيتناوب على معالجة هذه الإشكالية ثلّة من الباحثين العرب والغربيين، من زوايا مختلفة، في أفق إثارة حوار فلسفي يبرز أهمية المجتمع العلمي في واقعنا المعاصر. وللفلسفة في أبوظبي قصة تبدأ برؤية مشتركة أقرتها القيادة السياسية يمثلها صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، ومرجعية علمية يمثلها معالي العلامة عبد الله بن بيّه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسِّلم، رؤية تشرف إلى ضرورة الفلسفة وأهميتها لتحضّر المجتمع، استلهاماً من عصر الأنوار الإسلامي الفلسفي ممثلاً في أبي حامد الغزالي وابن رشد، وعصر الأنوار الأوروبي ممثلاً في ديكارت، حيث انفتح للفلسفة باب عريض في إمارة أبوظبي، وكانت جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية المجْلَى الأكبر لهذا الانفتاح. لقد كان استلهام هؤلاء الفلاسفة الثلاثة ذا دلالة كبرى في مسيرة أبوظبي الفلسفية، فالغزالي جعل الواقع شريكاً في الحكم الشرعي، وهو ما فتح العقل المسلم على الفلسفة والعلوم الإنسانية لسبر أغوار هذا الواقع لتنزيل حكم شرعي مناسب للعصر، وهذا لبُّ ما تحتاج إليه مجتمعاتنا لترشيد التديّن ومحاربة الغلو. وابن رشد جمع بين الحكمة والشّريعة وبيّن أنهما أختان من الرضاعة ويؤدّيان إلى حقيقة واحدة، وهو ما تحتاج إليه مجتمعاتنا السّاعية إلى الجمع بين مكتسبات العقل الإنساني في إنتاجاته العلمية المتاحة للبشرية جمعاء، وبين القيم التّنويرية في الإسلام، وديكارت الذي جعل العقل أعدل الأشياء قسمة بين النّاس بالتساوي، وجعل الفلسفة مقياساً للتحضر البشري، ولمجتمعاتنا نَسب قوي مع التحضر تريد أن تحييه وتحافظ عليه وبالفلسفة تُقوّيه.

إن القيادة الرشيدة بأبوظبي تسعى إلى بناء واقع سَداه الحكمة، ولُحْمته قيم التّسامح والسلام يكون مثالاً للتّحضر، فكان اختيارها استنبات فعل التفلسف في مجتمعها كأحد اللّبنات الأساسية لبناء هذا الواقع المأمول. فكان أن جعلت قسماً للفلسفة في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية تدرس فيه جميع فروع الفلسفة ونظرياتها المختلفة، وأنشأت مركزاً للدّراسات الفلسفية لتشجيع البحث العلمي في الفلسفة بمختلف تجلّياتها التّاريخية والميتافيزيقية والابستمولوجية والأكسيولوجية، وتكوين نخب إماراتية قادرة على حمل المشعل الفلسفي في بلدها بقوة وأمانة.

وإن مؤتمر باريس لهو تتويج للجهود العلمية والفلسفية التي يقوم بها مركز الدراسات الفلسفية للقيام بالمهمة المنوطة به، والتي يحرص الدكتور خليفة الظاهري مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية على توفير كل الإمكانات من أجل أن يمثّل المركز الوجه الفلسفي المشرق لجامعتنا العتيدة في التأطير والنّدوات والمؤتمرات الفلسفية والحوار الفلسفي مع المؤسسات العلمية الفلسفية في داخل الوطن العربي وخارجه، فضلاً عن الاحتفال بالنّشر العلمي للأبحاث العلمية الفلسفية الجادّة الموجهة للطلبة والباحثين. ولابد من التّنويه الخاص أيضاً بالدور الكبير للدكتور خليفة الظاهري في تنظيم مؤتمر باريس وإنجاحه بمعية زملائه في المعهد الفرنسي للإسلاميات وبخاصة البروفيسور بيير كاي والبروفسور مارون عواد، اللّذين أشكرهما جزيلا على تعاونهما معنا في تنظيم هذا المؤتمر وهي بداية موفّقة لتعاون مثمر بين مركز الدراسات الفلسفية والمعهد الفرنسي للإسلاميات لإنتاج خطاب فلسفي معاصر ومستنير من أجل مصلحة المؤسستين الكبيرتين في أبوظبي وباريس.

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.