في عالم تتغيّر فيه الموازين بسرعة تفوق قدرة البشر على الاستيعاب، تقف ثورتا الذكاء الاصطناعي والبيولوجيا التركيبية بوصفهما التحول الأكبر في تاريخ الإنسان الحديث. لم تَعدْ هذه التقنيات مجرد أدوات لتسهيل الحياة، بل منظومات تعيد تشكيل وعينا، وصحتنا، ووظائفنا، وبيئاتنا، وحتى القيم التي تنظّم علاقة الإنسان بنفسه وبالآخرين.
وما يدهشني بقدر ما يقلقني هو أن هذه الثورة لا تمنح البشرية رفاهية الوقت كي تناقش أسئلتها الكبرى، بل تتقدم بسرعة تُحتم علينا الفهم والتنظيم قبل أن تُعيد هي تنظيم شكل العالم من حولنا. إنّ الخطر الحقيقي لا يكمن في التقنية بحدّ ذاتها، بل في السرعة التي تتجاوز قدرتنا على احتوائها. لقد بات الذكاء الاصطناعي شريكاً مباشراً في عمليات التفكير والإبداع، بعد أن تجاوز دور المساعد التقني ليصبح قوة تحليلية وتعليمية وطبية ذات أثر واسع.
ففي التعليم، بدأت ملامح نموذج جديد أكثر عدالة وفعالية، تعليم شخصي يتكيّف مع احتياجات كل طالب، ويُعيد تشكيل مفهوم المدرسة والمعلم والمناهج. لكنه يطرح في المقابل أسئلة صعبة حول مستقبل المؤسسات التعليمية، وما إذا كانت ستتمكّن من ملاحقة عصر تنتقل فيه المعرفة بسرعة الضوء. وفي الصحة، يمضي العالم نحو طبّ شديد الدقة، يعالج الفرد وفق جيناته، ويراقب جسده قبل ظهور المرض، ويوفر إمكانات لم نكن نملكها منذ قرون. إننا نتجه نحو لحظة تعيد فيها التقنية تعريف المرض والشفاء معاً.
ويتجاوز التأثير ذلك ليصل إلى سوق العمل، حيث تتراجع قيمة المهن التقليدية لصالح مهارات جديدة لم يكن لها وجود قبل سنوات قليلة. فالذكاء الاصطناعي قادر اليوم على أداء مهام كتابية، وتحليلية، وقانونية، وطبية، وبرمجية، بشكل يمهّد لإعادة رسم خريطة الوظائف عالمياً.
وستنتقل أدوار البشر من تنفيذ المهمات إلى الإشراف وتوجيه الأنظمة الذكية وصياغة معايير استخداماتها، بينما ستختفي مهن وتُولد أخرى تتطلب فهماً عميقاً لهذه الموجة القادمة. وكل ذلك يحمل تأثيرات اجتماعية لا يمكن التقليل من شأنها، لأن المجتمع بأسره يتحرك نحو نموذج جديد غير مكتمل الملامح.
وفي الجانب الآخر من الصورة، تتقدم البيولوجيا التركيبية لتفتح باباً غير مسبوق لقدرة الإنسان على إعادة تصميم الحياة. كائنات دقيقة تنظّف الهواء وتزيل الملوثات، خلايا تُعدّل لتصبح خط دفاع طبياً، نباتات تُنتج مواد يحتاجها البشر، ومختبرات قادرة على إنتاج غذاء ودواء داخل المنازل في المستقبل القريب. وهذه ليست مجرد ابتكارات علمية، بل إعادة تعريف للعلاقة بين الإنسان والبيئة، وبين الطبيعة والصناعة، وبين الحاجة والإنتاج. ومع هذا الازدهار الهائل، يظهر وجهٌ آخر لا يقل خطورة.
فالتقنيات التي تعالج السرطان قد تُنتج فيروسات جديدة إذا أسِيء استخدامها، والأنظمة التي تقدم المعرفة قد تتحول إلى أدوات مراقبة قادرة على إعادة تشكيل السلوك البشري، والقدرة على تعديل الجينات قد تفتح الباب أمام سيناريوهات تتجاوز قدرة المجتمعات على ضبطها. والأسوأ أن هذه الأدوات أصبحت منخفضة التكلفة وسهلة الوصول، ما يجعل أخطاء الأفراد – لا الدول فقط – قادرة على خلق أزمات عالمية.
ولعل أخطر ما في هذه الثورة أنها تجلب معها معركة صامتة حول القيم، من يكتب أخلاقيات المستقبل؟ ومن يحدد ما هو مقبول وما هو محظور في عالم تصنعه الخوارزميات؟إننا أمام فرصة تاريخية لصناعة عالم أكثر صحةً وذكاء وكفاءة، لكننا في الوقت نفسه أمام مسؤولية غير مسبوقة تتطلب يقظة دائمة وقدرة على التنظيم والتعاون العالمي. فالمستقبل يقترب بسرعة، ولا يمنحنا رفاهية التردد، والخطأ الواحد في هذا العالم الجديد قد لا يكون مجرد زلة… بل شرارة تُعيد تشكيل مصير البشرية بأكملها.
*لواء ركن طيار متقاعد


