لم تتقارب الحركة التي ساهمت في تعيين روبرت كينيدي الابن وزيراً للصحة والخدمات الإنسانية سياسياً مع الشعبوية اليمينية إلا في السنوات القليلة الماضية، ولكن في جوهرها، كان للنقد الشامل، من الخارج، للطب الحديث قواسم مشتركة كثيرة مع شعبوية حركة «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً (ماجا)» قبل وقت طويل من ظهور مصطلح «ماها»، الذي يعني لنجعل أميركا تتمتع بالصحة مجدداً.
وكما هو الحال مع الشعبوية، خاطبت حركة «ماها» الإحباطات الواسعة من المؤسسة الطبية، التي بدت عاجزة عن تقديم حلول للمشكلات المستمرة، وتركت كثيرين ممن خذلهم النظام مع شعور بالتجاهل والازدراء. 
لكن، على غرار نقد الشعبوية للسياسة الداخلية، فإن نقد المؤسسة الطبية من الخارج لطالما واجه صعوبة في تقديم رؤية بديلة، تكون صارمة علمياً لا ساذجة. ومثل شعبوية «ماجا»، تجد حركة «ماها» نفسها الآن في علاقة معقدة مع الحزب «الجمهوري»، الذي لا يزال متمسكاً بتوجهاته السابقة لترامب تجاه المصالح التجارية وشركات الأدوية وشركات الأغذية الكبرى.
تولى كينيدي الابن منصبه، متعهداً بمواجهة تحديين كبيرين في الصحة العامة الأميركية: انتشار السمنة، واستمرار الأمراض المزمنة. وفي عالم مثالي، كان يمكن أن يقدم النقد الخارجي الكثير في كلا المجالين.
تُثار نقاشاتٌ لا تنتهي حول جذور مشكلة الوزن الزائد في أميركا، حيث تُطرح ثقافة السيارات والضواحي كأسباب غير غذائية تجعلنا أكثر بدانة من الأوروبيين. ومع ذلك، فإن النقد المناهض للشركات حول كيفية زراعة وإنتاج وبيع الغذاء يبدو منطقياً إلى حد ما، كما أن توجه «ماها» لدفع الأميركيين بعيداً عن المواد الكيميائية والأطعمة المصنعة يُعد تجربة جديرة بالمحاولة.
وفي الوقت نفسه، فإن الأمراض المزمنة، خاصة القائمة المتزايدة من الأمراض التي تفتقر لتفسير سببي واضح، تمثل مجالاً فشلت فيه المؤسسة الطبية إلى حد كبير، وسيكون اتباع نهج جديد بعيون ودراسات وبيانات جديدة موضع ترحيب تام.
لكن نهج «ماها» حتى الآن يعاني من مشكلتين: أنه يقوّض نفسه بنفسه، وأنه مقيد سياسياً. فهو يقوّض نفسه بمُطابقة العقائد الطبية التي يحتقرها بعقائد خاصة به، وخصوصاً في حماسه المفرط لما هو «طبيعي»، الذي يقلل من شأن الحلول الدوائية ويتصور أن الصحة العامة مسألة إزالة سموم العصر الحديث والعودة إلى حيوية ما قبل ستينيات القرن الماضي.
ولا شك أن الحداثة لها جانب سام، وأن للطبيعة حكمة كبيرة. لكن العالم الطبيعي مليء أيضاً بطرق قتلنا وتعذيبنا، وهو ما ساعدتنا الابتكارات البشرية في التغلب عليه. كما أن مشهد ما قبل الستينيات كان يوفر صحة أفضل للبعض، لكنه جلب الموت المبكر لكثيرين آخرين.
لذلك، من الضروري تحقيق توازن، بحيث يتم الترويج للمنتجات العضوية والحبوب الكاملة وبرامج التمارين لمكافحة السمنة… ولكن مع احتضان الإمكانات الثورية لموجة أدوية فقدان الوزن الجديدة. أو البحث عن جذور الأمراض المزمنة في المواد الكيميائية والملوثات… ولكن مع البقاء منفتحين على احتمال أن كثيراً من المرضى المزمنين يعانون من التهابات يمكن علاجها بالمزيج الصحيح من الأدوية الموصوفة. (أقول دائماً من واقع تجربتي في مكافحة مرض مزمن إن بعض العلاجات البديلة الغريبة كانت مفيدة، لكن الجرعات العالية من المضادات الحيوية كانت أساسية).
وهذا التوازن غائب تماماً عن «ماها» عندما يتعلق الأمر باللقاحات. فهناك الكثير من الأسئلة المشروعة حول فعالية لقاحات mRNA، ومعدل إصابات اللقاح الفعلي، والجدول الأمثل لتطعيمات الطفولة. لكن النقد الشمولي لا يكتفي أبداً بهذه القضايا المحددة، ولا يعترف بالحقيقة العامة بأن اللقاحات في معظمها مفيدة. بل إن الدافع دائماً هو جعل اللقاحات جذر المشكلة الصحية الحديثة، سواء عبر ادعاءات غير مقنعة عن حجم الآثار الجانبية للقاحات mRNA، أو عبر السعي المستمر وغير المثمر لإثبات وجود علاقة بين اللقاحات والتوحّد. والرفض للتخلي عن هذه القناعة رغم البيانات يعكس شعوراً داخلياً بأن التطعيم غير طبيعي إلى حد لا يمكن الوثوق به - وهو شعور إنساني مفهوم، لكنه لا يمكن أن يكون أساساً لسياسة الصحة العامة.
كان كينيدي الابن مثالاً على هذا الشعور عندما كان ناشطاً، أما كوزير للصحة، فهو إلى حد ما أسير له. فخطواته في ملف اللقاحات كانت جريئة وغير حكيمة، خاصة قراره الأخير بوقف كل التمويل لأبحاث لقاحات mRNA. ومع ذلك، فهي ليست جريئة بما يكفي لترضية حلفائه ومؤيديه، الذين يشعرون أصلاً بالاستياء لأنه لا يقود حملة أوسع ضد اللقاحات.
وفي الوقت نفسه، يبدو أنه أسير لسياسة التحالفات، لأن الحزب «الجمهوري» لا يزال حزباً للجماعات الزراعية والصناعية الكبرى، والتي يبدو أنها ستفرض قيوداً صارمة على أي جهدٍ كبيرٍ لجعل إمدادات الغذاء الأميركية أكثر صحة.

من المفيد هنا التذكير بالسياسة الاقتصادية لإدارة ترامب. فقد سعى أكثر الشعبويين طموحاً إلى نهج مختلف جذرياً عن الاقتصاد اليميني، لكن ما حصلوا عليه هو هوس ترامب طويل الأمد بالرسوم الجمركية، مُضافاً إلى حزمة التخفيضات الضريبية التقليدية، التي يقدمها الحزب الجمهوري والممولة من عجز الموازنة. وبالمثل، في مواجهة تحدي «ماها»، ستقدم قوى الشركات القديمة بعض التنازلات بشأن مكونات اللقاحات، وستتعلم التعايش مع المشاعر المعادية للقاحات - وإلا فقد ينتصر الوضع الراهن.
*كاتب أميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»