بعد مرور أكثر من 7 أشهر على الإدارة الثانية لدونالد ترامب، لا يزال مستقبل الليبرالية الأميركية غامضاً. ويمكن تحديد بعض الحركات التي تؤكد على الاعتدال السياسي والنمو الاقتصادي، والحماسة الاشتراكية.
وهناك أماكن أخرى غير ساحة السياسة يمكن النظر فيها عن مستقبل الليبرالية، مثل المكتبات الصغيرة المستقلة، حيث تعكس الطاولات المنتقاة بعناية تطلعات نخب مثقفة غالباً ما يكون أعضاؤها في طليعة مسيرة التقدم. وبصفتي صحفياً، جُلت في كاليفورنيا ومينيسوتا وماين، وأجريت في كل ولاية دراسة انطباعية لما يقرؤه مثقفو الولايات «الزرقاء» ذات الأغلبية «الديمقراطية».
وكان الانطباع الأول، والمدعوم أيضاً ببيانات المبيعات، أن هناك انسحاباً واضحاً من الكتب المتعلقة بترامب والسياسة الحزبية. ولم يعد هناك مثيل لموجة الكتب الأكثر مبيعاً التي تمحورت حول ترامب، والتي امتلأت بها المكتبات في السنوات الماضية. وتحضر الشخصيات اليمينية البارزة، مثل إيلون ماسك وجي. دي. فانس وتاكر كارلسون وحتى ترامب نفسه، عبر لافتات ساخرة وبطاقات وكاريكاتيرات. أما قادة الحزب «الديمقراطي» فليس لهم حضور يُذكر في المكتبات.
وكان الانطباع الثاني أن هناك أيضاً تراجعاً عن الهواجس الرئيسية لعصر الوعي، مثل العِرق ومناهضة العنصرية، وتفوق البيض، وإنهاء الاستعمار. ولا تزال لافتات «حياة السود مهمة» ونسخ من كتاب «بين العالم وبيني» معروضة بشكل بارز، وللقضية الفلسطينية حضور قوي في المكتبات. ولكن إذا أردنا تحديد الاهتمام الرئيسي للقراء الليبراليين، فسيكون الاهتمام بالبيئة بدلاً من الصراع الانتخابي، والحفاظ على البيئة والانقراض بدلاً من مقاومة الشعبوية.
أما الانطباع الثالث أن هذا الاهتمام لا يبدو مجرد انتقال من العدالة العرقية إلى التغير المناخي، بل يبدو أقرب إلى الهروب من السياسة نفسها، فحتى وإنْ ظلت النقاشات البيئية تلقي بظلالها على علم النبات في كتب مثل «آكلو الضوء» لزوي شلانغر أو علم البيئة النهرية «هل النهر حيّ؟» لروبرت ماكفارلين، فإنها ليست بيانات لصفقة خضراء جديدة بقدر ما هي أعمال علمية وأدبية. وهذه الكتب تشارك الطاولات مع أعمال أقرب إلى الراحة البيئية والشفاء النفسي، مثل كتاب «التوت البري»، الذي يتناول «الوفرة والتبادلية في العالم الطبيعي» لمؤلف كتاب «ضفائر العشب الحلو» الأكثر مبيعاً، إلى كتاب «سجلات طيور الفناء الخلفي» لأيمي تان.
ومن اللافت أن أبرز كتاب صدر هذا الصيف حول تغير المناخ ليس كتاباً سياسياً، بل رواية بعنوان «الشاطئ المظلم البري» لشارلوت ماكوناغي، وتدور أحداثها في جزيرة قريبة من القارة القطبية الجنوبية تواجه ارتفاعاً في منسوب مياه البحر، حيث يحاول عالم وعائلته حماية مخزن للبذور. وتتناول روايات ماكوناغي السابقة الهجرة الأخيرة لطائر قطبي، ومحاولة إعادة إدخال الذئاب إلى ريف أسكتلندا، على التوالي. ويمكن القول: إن أعمالها المُجمعة أصبحت نوعاً أدبياً معاصراً: الميلودراما البيئية، التي تتشابك فيها الصدمات الشخصية والأزمات البيئية.
وتحمل تلك القصص- بطابعها الشخصي، واعتبار نهاية العالم أمراً مفروغاً منه- القارئ بعيداً عن الانخراط السياسي، نحو تشاؤم وجودي تبرز فيه أخلاقيات إنجاب الأطفال في ظل أزمة بيئية بشكل بارز في أحدث روايات ماكوناغي، ونظرة مستقبلية قائمة على البقاء، حيث الأمل ينتمي إلى أفق بعيد المدى.
وهكذا، نجد القصص متناسبة مع ليبرالية فقدت ثقتها بالمسار الأخلاقي للتاريخ، وانتقلت من اعتبار النزعة الترامبية حالة طارئة مؤقتة إلى اعتبارها قوة غالبة. إنها تُعبر عن حالة من النفي الداخلي، وعدم اليقين، والتشرد، تنتظرُ كشفاً جديداً لاستعادة الثقة والأمل.
ويرتبط هذا المزيج من القلق والبحث عن ملاذ آمن مع قوى طاغية في المكتبات اليوم، سواء في المتاجر الصغيرة المستقلة أو في السلاسل الكبرى، وهي عملاق النتاج الأدبي المشبع بالخيال والعاطفة، لعالم هاري بوتر وأعمال آن رايس وسلسلة «خمسين درجة من الرمادي».
وعلى الرفوف أيضاً نرى تراجعاً ثقافياً آخر عن التفاؤل الليبرالي. فإذا كان عالم هاري بوتر قد مثل رمزاً لمجتمع سحري يدافع عن نفسه ضد الفاشية، فإن روايات «الرومانسية الفانتازية» تفترض عالماً أكثر قتامة، تهيمن فيه القوى الغامضة أو الشريرة. وانطلقت بعض الكاتبات من قصص مستوحاة من عالم بوتر، حيث يُقتل البطل وينتصر الساحر الشرير، وهو تحول سياسي وفكري ملموس.
والأهم أن هذه الأعمال لا تكتفي بالتصوير الكئيب، بل تجد لذتها في التورط مع الشر. وتضع عناوين مثل «الرغبة الجامحة في الوقوع بحب عدوك» تضع بطلات يشبهن هيرميون، الفتاة الذكية المدافعة عن النسوية، في علاقات «غير مشروعة وملتبسة أخلاقياً» مع شخصيات شبيهة بدراكو مالفوي، الأرستقراطي الشرير في عالم بوتر. وأترك للقارئ أن يستنتج بنفسه ما يُوحي به ذلك عن مستقبل الليبرالية المُحتمل.
*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»


