في زمنٍ طغت فيه على صورة الشرق الأوسط فوضى أفرزتها المغالاة الأيديولوجية، شقّت دولة الإمارات العربية المتحدة، من عاصمتها أبوظبي، مساراً مختلفاً قدّم للعالم نموذجاً يقوم على الاعتدال ورسوخ الدولة الوطنية، ويرفض تحويل الدين إلى مطيّة لمشاريع سياسية متطرّفة. وقد نهض الشعب الإماراتي بكل مكوّناته مدافعاً عن جوهر الإسلام وروحه الأصيلة في وجه من أرادوا اختزاله في أداة للصراع والهيمنة.
لقد سعى الإسلام السياسي، ممثَّلاً بشكل بارز في جماعاتٍ كجماعة «الإخوان» المسلمين، إلى خلط الإيمان بالحكم وفرض وصايته على المجتمعات، فزرع الاضطراب في الإقليم، وسعى إلى تسخير الدين لتبرير أجنداته السياسية. غير أنّ أبوظبي واجهت هذا التوغّل بحزم ووعي، فاستعادت للإسلام معناه الحق: ديناً للوحدة والتسامح والتعايش، لا للإقصاء والانقسام أو الاستعلاء والهيمنة.
وسوف يتعزّز هذا الالتزام في الأيام المقبلة باستضافة دولة الإمارات في عاصمتها أبوظبي فعاليات «المنتدى السنوي الخامس للإسلام السياسي»، وهو ملتقى عالمي لا يقتصر على فضح مخاطر الأيديولوجيات المتطرّفة، بل يتبنّى أيضاً مهمّة التثقيف بكشف خصائصها ومنابعها وآلياتها، ويزوّد المجتمعات بالمعرفة التي تمكّنها من مواجهتها وإبطال مفعول خطابها المسموم.
أدرك مؤسسو دولة الإمارات أنّ قوة الدولة تُستمدّ من الحكم العادل والشامل، لا من تمكين أيديولوجيا وحيدة تتدرّع بالدين. وظلّ الإسلام في التجربة الإماراتية إطاراً هادياً للقيم والهوية والثقافة، بعيداً عن أن يُختزل أداةً حزبية للحكم أو وسيلة للهيمنة. وتُعدّ هذه القطيعة المنهجية خطوة حاسمة، إذ ما إن يتحوّل الدين إلى مشروعٍ سياسي حتى يفقد وظيفته الجامعة، ويغدو مصدراً للانقسام. وقد برهنت التجارب التاريخية مراراً على أنّ حركات الإسلام السياسي، من «الإخوان» في مصر إلى امتداداتهم في الإقليم، تبدأ بشعارات الإصلاح والأخلاق، غير أنّها تنتهي إلى الإقصاء أو السلطوية أو إشعال النزاعات. ومن خلال رفض تسييس الدين، صانت أبوظبي تراثها الديني ونسيجها المدني معاً، لتبقي الإيمان رافدًا للقوة الأخلاقية ومانعاً من الفرقة.
لم تكن محاولات «الإخوان» داخل الإمارات استثناءً عن نهجهم المعروف في المنطقة؛ فقد سعوا إلى التمدّد عبر إنشاء شبكات نفوذٍ ناعمة تستند إلى العمل الخيري والتعليم والخطاب الوعظي، بما يفضي إلى بناء سلطةٍ موازية تنازع الدولة شرعيتها. غير أنّ دولة الإمارات التقطت مبكراً دلالات هذا المسار، ورأت خلف خطاب الفضيلة نزوعاً إلى سلطةٍ، يُهدّد وحدة المجتمع،  ويقوّض توازن دولةٍ راسخة. وكان ثبات القيادة في التصدي لتلك المحاولات فعلَ صون: حمايةً لقداسة الدين من التلاعب، ودفعاً لشرور الفوضى التي يولّدها تديينُ السياسة وتسخيرُ الدين مطيّةً للحكم.
وبفضل هذا الموقف المبدئي، تطوّرت الإمارات ليصبح مجتمعها من أكثر المجتمعات حيويةً وتنوعاً في العالم، يؤوي اليوم أكثر من مئتي جنسية تعيش وتعمل في إطارٍ من التسامح وحكم القانون. ولم يكن لهذا التنوع أن يزدهر تحت سطوة أيديولوجيات متطرّفة تُقدّم الامتثال على التعايش، وتفرض امتحاناتٍ صارمة للهوية. بل على العكس، هيّأت الدولة فضاءً يُمارس فيه المسلمون شعائرهم بحرية واحترام، ويُصان فيه حقّ أتباع الديانات الأخرى ويُرحَّب بهم شركاء في الحياة العامة.
ولم تجيء هذه الموازنة اعتباطاً، بل كانت ثمرة سياساتٍ راسخة تُصرّ على أن يسترشد الحكم بقيم الدين دون أن يُختزل الدين في سلطة الحكم. وكانت النتيجة ظاهرةً للعيان: اقتصادٌ مزدهر، واستقرارٌ اجتماعي، وسمعةٌ دولية راسخة كمركزٍ للابتكار والثقافة والحوار.
وعليه، فإنّ «منتدى الإسلام السياسي» المقبل في أبوظبي ليس تمريناً أكاديمياً ولا لفتةً رمزية فحسب، بل حلقةٌ ضمن مشروعٍ مستدام يروم تعميق فهم الكيفيات التي تعمل بها الأيديولوجيات المتطرّفة، وضرورة مقاومتها بجلاءٍ فكري لا بإجراءاتٍ أمنية وحدها. وبجمعه العلماء وصنّاع القرار وقادة الفكر، يهدف المنتدى إلى تتبّع الجذور الفكرية لحركاتٍ كالإخوان، وتحليل أساليبها في التجنيد والدعاية، ومقارنة الخبرات الدولية في مكافحتها. فالتنديد بالتطرّف لا يكفي؛ إذ لا بدّ من تثقيف المجتمعات بأنماطه، وتزويدها بسردياتٍ مضادّة، وبثّ الثقة في الاعتدال بوصفه الطريق الأصيل للإسلام.
وتتميّز مقاربة أبوظبي بأنّها لا ترى الاعتدال ضعفاً أو مساومة، بل تعتبره قوةً ومتانة. ففي منطقةٍ طالما ادّعى فيها التطرّف امتلاك صكّ الأصالة، تؤكد الإمارات أنّ الأصالة الحقة تتمثّل في إسلامٍ يتكامل مع الحوكمة الحديثة، ويعانق التنوّع، ويرفض العنف. ومن خلال طرح هذا الموقف على المنصّة العالمية، تُثبت الدولة أنّ استرداد الإسلام من قبضة المؤدلِجين ليس خيانةً للتقليد، بل صونٌ له. فالإيمان يبلغ ذروته حين يلهم الفضيلة والعدل والسلام، لا حين يُستعمل سلاحاً في صراعٍ على السلطة. وهكذا غدت صلابة الإمارات في مواجهة التحديات الأيديولوجية نموذجاً يُحتذى خارج حدودها. فهي تُبرهن أنّ الاعتدال يرسّخ الاستقرار، وأنّ الفصل بين الدين والسياسة يحمي الإيمان، وأنّ الرخاء يشتدّ متانته حين يُبنى على الشمول لا على الانقسام. 
تؤكد دولة الإمارات أنّ مخاطر تسييس الدين ليست شأناً أمنياً فحسب، بل قضية فكرية وأخلاقية في جوهرها. ومن خلال نهجٍ يقوم على الكشف والتحليل والتثقيف، تبعث الإمارات برسالةٍ واضحة إلى الداخل والخارج: إنّ الإسلام، متى تحرّر من مطامح «الإخوان» وسائر الحركات المؤدلِجة، يظلّ معيناً صافياً للقيم والرحمة، ومنبعاً للتسامح والوحدة، قادراً على إلهام المجتمعات بالعدل والسلام، وقيادتها بثقة نحو مستقبلٍ راسخٍ في الاستقرار ومزدهر بالإنجاز.

* مستشار برلماني